فصل: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إحياء علوم الدين **


الغناء أشد تهييجاً للوجد من القرآن من سبعة أوجه

الوجه الأول‏:‏ أن جميع آيات القرآن لا تناسب حال المستمع ولا تصلح لفهمه وتنزيله على ما هو ملابس له فمن استولى عليه حزن أو شوق أو ندم فيمن أين يناسب حاله قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏ والذين يرمون المحصنات ‏"‏ وكذلك جميع

الآيات التي فيها بيان أحكام الميراث والطلاق والحدود وغيرها وإنما المحرك لما في القلب ما يناسبه‏.‏

والأبيات إنما يضعها الشعراء إعراباً بها عن أحوال القلب فلا يحتاج في فهم الحال منها إلى تكلف‏.‏

نعم من يستولي عليه حالة غالبة قاهرة لم تبق فيه متسعاً لغيرها ومعه تيقظ وذكاء ثاقب يتفطن به للمعاني البعيدة من الألفاظ فقد يخرج وجده على كل مسموع كمن يخطر له عند ذكر قوله تعالى ‏"‏ يوصيكم اله في أولادكم ‏"‏ حالة الموت المحوج إلى الوصية وأن كل إنسان لا بد أن يخلف ماله وولده وهما محبوباه من الدنيا فيترك أحد المحبوبين للثاني ويهجرهما جميعاً فيغلب عليه الخوف والجزع أو يسمع ذكر الله في قوله ‏"‏ يوصيكم الله في أولادكم ‏"‏ فيدهش بمجرد الاسم عما قبله وبعده أو يخطر له رحمة الله على عباده وشفقته بأن تولى قسم مواريثهم بنفسه نظراً لهم في حياتهم وموتهم فيقول‏:‏ إذا نظر لأولادنا بعد موتنا فلا نشك بأنه ينظر لنا فيهيج منه حال الرجاء ويورثه ذلك ابشاراً وسروراً أو يخطر له من قوله تعالى ‏"‏ للذكر مثل حظ الأنثيين ‏"‏ تفضيل الذكر بكونه رجلاً على الأنثى وأن الفضل في الآخرة لرجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله‏.‏

وأن من ألهاه غير الله تعالى عن الله تعالى فهو من الإناث لا من الرجال تحقيقاً فيخشى أن يحجب أو يؤخر في نعيم الآخرة كما أخرت الأنثى في أموال الدنيا‏.‏

فأمثال هذا قد يحرك الوجد ولكن لمن فيه وصفان أحدهما حالة غالبة مستغرقة قاهرة والآخرة تفطن بليغ وتيقظ بالغ كامل للتنبيه بالأمور القريبة على المعاني البعيدة وذلك مما يعز فلأجل ذلك يفزع إلى الغناء الذي هو ألفاظ مناسبة للأحوال حتى يتسارع هيجانها‏.‏

وروي أن أبا الحسين النوري كان مع جماعة في دعوى فجرى بينهم مسألة في العلم وأبو الحسين ساكت ثم رفع رأسه وأنشدهم‏:‏ رب ورقاء هتوف في الضحى ذات شجو صدحت في فنن ذكرت إلفا ودهراً صالحاً وبكت حزناً فهاجت حزني فسكاتي ربما أرقها وبكاها ربما أرقني ولقد أشكو فما أفهمها ولقد تشكو فما تفهمني غير أني بالجوى أعرفها وهي أيضاً بالجوى تعرفني قال فما بقي أحد من القوم إلا قام وتواجد ولم يحصل لهم هذا الوجد من العلم الذي خاضوا الوجه الثاني‏:‏ أن القرآن محفوظ للأكثرين ومتكرر على الأسماع والقلوب وكلما سمع أولاً عظم أثره في القلوب وفي الكرة الثانية يضعف أثره وفي الثالثة يكاد يسقط أثره‏.‏

ولو كلف صاحب الوجد الغالب أن يحضر وجده على بيت واحد على الدوام في مرات متقاربة في الزمان في يوم أو أسبوع لم يمكنه ذلك‏.‏

ولو أبدل بيت آخر لتجدد له أثر في قلبه وإن كان معرباً عن عين ذلك المعنى‏.‏

ولكن كون النظم واللفظ غريباً بالإضافة إلى الأولى يحرك النفس وإن كان المعنى واحداً‏.‏

وليس يقدر القارئ على أن يقرأ قرآناً غريباً في كل وقت ودعوة فإن القرآن محصور لا يمكن الزيادة عليه وكله محفوظ متكرر وإلى ما ذكرناه أشار الصديق رضي الله عنه حيث رأى الأعراب يقدمون فيسمعون القرآن ويبكون فقال‏:‏ كنا كما كنتم ولكن قست قلوبنا‏.‏

ولا تظنن أن قلب الصديق رضي الله عنه كان أقسى من قلوب الأجلاف من العرب وأنهن كان أخلى عن حب الله تعالى وحب كلامه من قلوبهم ولكن التكرار على قلبه اقتضى المرون عليه وقلة التأثر به لما حصل له من الأنس بكثرة استماعه إذ محال في العادات أن يسمع السامع آية لم يسمعها قبل فيبكي ثم يدوم على بكائه عليها عشرين سنة ثم يرددها ويبكي ولا يفارق الأول الآخر إلا في كونه غريباً جديداً ولكل جديد لذة ولكل طارئ صدمة ومع كل مألوف أنس يناقض الصدمة‏.‏

ولذا هم عمر رضي الله عنه أن يمنع الناس من كثرة الطواف وقال‏:‏ قد خشيت أن يتهاون الناس بهذا البيت أي يأنسوا به‏.‏

ومن قدم حاجاً فرأى البيت أولاً بكى وزعق وربما غشي عليه إذ وقع عليه بصره وقد يقيم بمكة شهراً ولا يحس من ذلك في نفسه بأثر فإذاً المغنى يقدر على الأبيات الغريبة في كل وقت ولا يقدر في كل وقت على آية غريبة‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ أن لوزن الكلام بذوق الشعر تأثيراً في النفس فليس الصوت الموزون الطيب كالصوت الطيب الذي ليس بموزون وإنما يوجد الوزن في الشعر دون الآيات ولو زحف المغني البيت الذي ينشده أو لحن فيه أو مال عن حد تلك الطريقة في اللحن لاضطراب قلب المستمع وبطل جده وسماعه ونفر طبعه لعدم المناسبة‏.‏

وإذا نفر الطبع اضطرب القلب وتشوش فالوزن إذن مؤثر فلذلك طاب الشعر‏.‏

الوجه الرابع‏:‏ أن الشعر الموزن يختلف تأثيره في النفس بالألحان التي تسمى الطرق والاستانات وإنما اختلاف تلك الطرق بمد المقصور وقصر المدود والوقف في أثناء الكلمات والقطع والوصل في بعضها‏.‏

وهذا التصرف جائز في الشعر ولا يجوز في القرآن إلا التلاوة كما أنزل فقصره ومده والوقف والوصل والقطع فيه على خلاف ما تقضتيه التلاوة حرام أو مكروه‏.‏

وإذا رتل القرآن كما أنزل سقط عنه الأثر الذي سببه وزن الألحان وهو سبب مستقل بالتأثير وإن لم يكن مفهوماً كما في الأوتار والمزمار والشاهين وسائر الأصوات التي لا تفهم‏.‏

الوجه الخامس‏:‏ أن الألحان الموزونة تعضد وتؤكد بإيقاعات وأصوات أخر موزونة خارج الحلق كالضرب بالقضيب والدف وغيره لأن الوجد الضعيف لا يستثار إلا بسبب قوي وإنما يقوى بمجموع هذه الأسباب ولكل واحد منها حظ في التأثير وواجب أن يصان القرآن عن مثل هذه القرائن لأن صورتها عند عامة الخلق صورة اللهو واللعب والقرآن جد كله عند كافة الخلق فلا يجوز أن يمزج بالحق المحض ما هو لهو عند العامة وصورته صورة اللهو عند الخاصة وإن كانوا لا ينظرون إليها من حيث إنها لهو بل ينبغي أن يوقر القرآن فلا يقرأ على شوارع الطرق بل في مجلس ساكن ولا في حال الجنابة‏.‏

ولا على غير طهارة ولا يقدر على الوفاء بحق حرمة القرآن في كل حال إلا المراقبون لأحوالهم فيعدل إلى الغناء الذي لا يستحق هذه المراقبة والمراعاة ولذلك لا يجوز الضرب بالدف مع قراءة القرآن ليلة العرس‏.‏

وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب الدف في العرس فقال‏:‏ ‏"‏ أظهروا النكاح ولو بضرب الغربال ‏"‏ أو بلفظ هذا معناه وذلك جائز مع الشعر دون القرآن‏.‏

ولذلك لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت الربيع بنت معوذ وعندها جوار فسمع إحداهن تقول‏:‏ وفينا نبي يعلم ما في غد‏.‏

على وجه الغناء فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ دعي هذا وقولي ما كنت تقولين ‏"‏ وهذه شهادة بالنبوة فزجرها عنها وردها إلى الغناء الذي هو لهو لأن هذا جد محض فلا يقرن بصورة اللهو‏.‏

فإذاً يتعذر بسببه تقوية الأسباب التي بها يصير السماع محركاً للقلب فواجب في الاحترام العدول إلى الغناء عن القرآن كما وجب على تلك الجارية العدول عن شهادة النبوة إلى الغناء‏.‏

الوجه السادس‏:‏ أن المغني قد يغني ببيت لا يوافق حال السامع فيكرهه وينهاه عنه ويستدعي غيره فليس كل كلام موافقاً لكل حال‏.‏

فلو اجتمعوا في الدعوات على القارئ فربما يقرأ آية لا توافق حالهم إذ القرآن شفاء للناس كلهم على اختلاف الأحوال فآيات الرحمة شفاء الخائف وآيات العذاب شفاء المغرور الآمن‏.‏

وتفضيل ذلك مما يطول‏.‏

فإذاً لا يؤمن أن لا يوافق المقروء الحال وتكرهه النفس فيتعرض به لخط كراهة كلام الله تعالى من حيث لا يجد سبيلاً إلى دفعه‏.‏

فالاحتراز عن خطر ذلك حزم بالغ وحتم واجب إذ لا يجد الخلاص عنه إلا بتنزيله على وفق حاله ولا يجوز تنزيل كلام الله تعالى إلا على ما أراد الله تعالى‏.‏

وأما قول الشاعر فيجوز تنزيله على غير مراده ففيه خطر الكراهة أو خطر التأويل الخطأ لموافقة الحال فيجب توقير كلام الله وصيانته عن ذلك وهذا ما ينقدح في علل انصراف الشيوخ إلى سماع الغناء عن سماع القرآن‏.‏

وههنا وجه سابع ذكره أبو نصر السراج في الاعتذار عن ذلك فقال‏:‏ القرآن كلام الله وصفة من صفاته وهو حق لا تطيقه البشرية لأنه غير مخلوق فلا تطيقه الصفات المخلوقة‏.‏

ولو كشف للقلوب ذرة من معناه وهيبته لتصدعت ودهشت وتحيرت‏.‏

والألحان الطيبة مناسبة للطباع ونسبتها نسبة الحظوظ لا نسبة الحقوق والشعر نسبته نسبة الحظوظ‏.‏

فإذا علقت الألحان والأصوات بما في الأبيات من الإشارات واللطائف شاكل بعضها بعضاً كان أقرب إلى الحظوظ وأخف على القلوب لمشاكلة المخلوق المخلوق المخلوق‏.‏

فما دامت البشرية باقية ونحن بصفاتنا وحظوظنا نتنعم بالنغمات الشجية والأصوات الطيبة فانبساطنا لمشاهدة بقاء هذه الحظوظ إلى القصائد أولى من انبساطنا إلى كلام الله تعالى الذي هو صفته وكلامه الذي منه بدأ وإليه يعود‏.‏

وهذا حاصل المقصود من كلامه واعتذاره‏.‏

وقد حكى عن أبي الحسن الدراج أنه قال قصدت يوسف بن الحسين الرازي من بغداد للزيارة والسلام عليه فما دخلت الرى كنت أسأل عنه فكل من سألته عنه قال‏:‏ أيش تعمل بذلك الزنديق فضيقوا صدري حتى دخلت عله في مسجد وهو قاعد في المحراب وبين يديه رجل وبيده مصحف وهو يقرأ فإذا هو شيخ بهي حسن الوجه واللحية فسلمت عليه فأقبل على وقال‏:‏ من أين أقبلت فقلت‏:‏ من بغداد فقال‏:‏ وما الذي جاء بك فقلت‏:‏ قصدتك للسلام عليك فقال‏:‏ لو أن في بعض هذه البلدان قال لك إنسان أقم عندنا حتى نشتري لك داراً أو جارية أكان يقعدك ذلك عن المجيء فقلت‏:‏ ما امتحنني الله بشيء من ذلك ولو امتحنني ما كنت أدري كيف أكون ثم قال لي‏:‏ أتحسن أن تقول شيئاً فقلت‏:‏ نعم فقال‏:‏ هات‏!‏ فأنشأت أقول‏:‏

كأني بكم والليت أفضل قولكم ** ألا ليتنا كنا إذ الليت لا يغني

قال‏:‏ فأطبق المصحف ولم يزل يبكي حتى ابتلت لحيته وابتل ثوبه حتى رحمته من كثرة بكائه ثم قال‏:‏ يا بني تلوم أهل الري يقولون يوسف زنديق هذا أنا من صلاة الغداة أقرأ في المصحف لم تقطر من عيني قطرة وقد قامت القيامة علي لهذين البيتين‏.‏

فإذاً القلوب وإن كانت محترقة في حب الله تعالى فإن البيت الغريب يهيج منها ما لا تهيج تلاوة القرآن وذلك لوزن الشعر ومشاكلته للطباع ولكونه مشاكلاً للطبع اقتدر البشر على نظم الشعر وأما القرآن فنظمه خارج عن أساليب الكلام ومنهاجه وهو لذلك معجز لا يدخل في قوة البشر لعدم مشاكلته لطبعه‏.‏

وروي أن إسرافيل أستاذ ذي النون المصري دخل عليه رجل فرآه وهو ينكت في الأرض بإصبعه ويترنم ببيت فقال‏:‏ هل تحسن أن تترنم بشيء فقال‏:‏ لا قال‏:‏ فأنت بلا قلب إشارة إلى أن من له قلب وعرف طباعه علم أنه تحركه الأبيات والنغمات تحريكاً لا يصادف في غيرها فيتكلف طريق التحريك إما بصوت نفسه أو بغيره وقد ذكرنا حكم المقام الأول في فهم المسموع وتنزيله وحكم المقام الثاني في الوجد الذي يصادف في القلب فلنذكر الآن أثر الوجد أعني ما يترشح منه إلى الظاهر من صعقة وبكاء وحركة وتمزيق ثوب وغيه فنقول‏:‏ نذكر فيه آداب السماع ظاهراً وباطناً وما يحمد من آثار الوجد وما يذم فأما الآداب فهي خمس جمل‏:‏ الأول‏:‏ مراعاة الزمان والمكان والإخوان‏.‏

قال الجنيد‏:‏ السماع يحتاج إلى ثلاثة أشياء وإلا فلا تسمع‏:‏ الزمان والمكان والإخوان‏.‏

ومعناه أن الاشتغال به في وقت حضور طعام أو خصام أو صلاة أو صارف من الصوارف مع اضطراب القلب لا فائدة فيه فهذا معنى مراعاة الزمان فيراعي حالة فراغ القلب له‏.‏

وأما المكان‏:‏ فقد يكون شارعاً مطروقاً أو موضعاً كريه الصورة أو فيه سبب يشغل القلب فيجتنب ذلك‏.‏

وأما الإخوان‏:‏ فسببه أنه إذا حضر غير الجنس من منكر السماع متزهد الظاهر مفلس من لطائف القلوب كان مستثقلاً في المجلس واشتغل القلب به‏.‏

وكذلك إذا حضر متكبر من أهل الدنيا يحتاج إلى مراقبته وإلى مراعاته أو متكلف متواجد من أهل التصوف يرائي بالوجد والرقص وتمزيق الثياب فكل ذلك مشوشات‏.‏

فترك السماع عند فقد هذه الشروط أولى ففي هذه الشروط نظر للمستمع‏.‏

الأدب الثاني‏:‏ هو نظر الحاضرين أن الشيخ إذا كان حوله مريدون يضرهم السماع فلا ينبغي أن أقلهم درجة‏.‏

وهو الذي لم يدرك من الطريق إلا الأعمال الظاهرة ولم يكن له ذوق السماع فاشتغاله بالسماع اشتغال بما لا يعنيه فإنه ليس من أهل اللهو فيلهو ولا من أهل الذوق فيتنعم بذوق السماع فليشتغل بذكر أو خدمة وإلا فهو تضييع لزمانه‏.‏

الثاني‏:‏ هو الذي له ذوق السماع ولكن فيه بقية من الحظوظ والاتفات إلى الشهوات والصفات البشرية ولم ينكسر بعد انكسار تؤمن غوائله فربما يهيج السماع منه داعية اللهو والشهوة فيقطع عليه طريقه ويصده عن الاستكمال‏.‏

الثالث‏:‏ أن يكون قد انكسرت شهوته وأمنت غائلته وانفتحت بصيرته واستولى على قلبه حب الله تعالى ولكنه لم يحكم ظاهر العلم ولم يعرف أسماء الله تعالى وصفاته وما يجوز عليه وما يستحيل فإذا فتح له باب السماع نزل المسموع في حق الله تعالى على ما يجوز وما لا يجوز فيكون ضرره من تلك الخواطر التي هي كفر أعظم من نفع السماع‏.‏

قال سهل رحمه الله‏:‏ كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل‏.‏

فلتا يصلح السماع لمثل هذا ولا لمن قلبه بعد ملوث بحب الدنيا وحب المحمدة والثناء ولا لمن يسمع لأجل التلذذ والاستطابة بالطبع فيصير ذلك عادة له ويشغله ذلك عن عبادته ومراعاة قلبه وينقطع عليه طريقه‏.‏

فالسماع مزلة قدم يجب حفظ الضعفاء عنه‏.‏

قال الجنيد‏:‏ رأيت إبليس في النوم فقلت له هل تظفر من أصحابنا بشيء قال‏:‏ نعم في وقتين وقت السماع ووقت النظر فإني أدخل عليهم به‏.‏

فقال بعض الشيوخ‏:‏ لو رأيته أنا لقلت له ما أحمقك من سمع منه إذا سمع ونظر إليه إذا نظر كيف تظفر به فقال الجنيد‏:‏ صدقت‏.‏

الأدب الثالث‏:‏ أن يكون مصغياً إلى ما يقول القائل حاضر القلب قليل الالتفات إلى الجوانب متحرزاً عن النظر إلى وجوه المستمعين وما يظهر عليهم من أحوال الوجد‏.‏

مشتغلاً بنفسه ومراعاة قلبه ومراقبة ما يفتح الله تعالى له من رحمته في سره متحفظاً عن حركة تشوش على أصحابه قلوبهم‏.‏

بل يكون ساكن الظاهر هادئ الأطراف متحفظاً عن التنحنح والتثاؤب ويجلس مطرقاً رأسه كجلوس في فكر مستغرق لقلبه متماسكاً عن التصفيق والرقص وسائر الحركات على وجه التصنع والتكلف والمراءاة ساكناً عن النطق في أثناء القول بكل ما عنه بد فإن غلبه الوجد وحركه بغير اختيار فهو فيه معذور غير ملوم‏.‏

ومهما رجع إليه الاختيار فليعد إلى هدوئه وسكونه‏.‏

ولا ينبغي أن يستديمه حياء من أن يقال انقطع وجده على القرب ولا أن يتواجد خوفاً من أن يقال هو قاسي القلب عديم الصفاء والرقة‏.‏

حكى أ شاباً كان يصحب الجنيد فكان إذا سمع شيئاً من الذكر يزعق فقال له الجنيد يوماً إن فعلت ذلك مرة أخرى لم تصحبني فكان بعد ذلك يضبط نفسه حتى يقطر من كل شعرة منه قطرة ماء ولا يزعق فحكى أنه اختنق يوماً لشدة ضبطه لنفسه فشهق شهقة فانشق قلبه وتلفت نفسه‏.‏

وروي أن موسى عليه السلام قص في بني إسرائيل فمزق واحد منهم ثوبه أو قميصه فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام قل له‏:‏ مزق لي قلبك ولا تمزق ثوبك‏.‏

قال أبو القاسم النصراباذي لأبي عمرو بن عبيد أنا أقول‏:‏ إذا اجتمع القوم فيكون معهم قوال يقول خيراً لهم من أن يغتابوا فقال أبو عمرو‏:‏ الرياء في السماع وهو أن ترى من نفسك حالاً ليست فيك شر من أن تغتاب ثلاثين سنة أو نحو ذلك‏.‏

فإن قلت‏:‏ الأفضل هو الذي لا يحركه السماع ولا يؤثر في ظاهره أو الذي يظهر عليه فاعلم أن عدم الظهور تارة يكون لضعف الوارد من الوجد فهو نقصان وتارة يكون مع قوة الوجد في الباطن لكن لا يظهر لكمال القوة على ضبط الجوارح فهو كمال وتارة يكون لكون حال الوجد ملازماً ومصاحابً في الأحوال كلها فلا يتبين للسماع مزيد تأثير وهو غاية الكمال‏.‏

فإن صاحب الوجد في غالب الأحوال لا يدوم وجده فمن هو في وجد دائم فهو المرابط للحق والملازم لعين الشهود فهذا لا تغيره طوارق الأحوال ولا يبعد أن تكون الإشارة بقول الصديق رضي الله عنه‏:‏ كنا كما كنتم ثم قست قلوبنا معناه قويت قلوبنا واشتدت فصارت تطيق ملازمة الوجد في كل الأحوال فنحن في سماع معاني القرآن على الدوام فلا يكون القرآن جديداً في حقنا طارئاً علينا حتى تتأثر به‏.‏

فإذاً قوة الوجد تحرك وقوة العقل والتماسك تضبط الظاهر وقد يغلب أحدهما الآخر إما لشدة قوته وإما لضعف ما يقابله ويكون النقصان والكمال بحسب ذلك فلا تظنن أن الذي يضطرب بنفسه على الأرض أتم وجداً من الساكن باضطرابه بل رب ساكن أتم وجداً من المضطرب‏.‏

فقد كان الجنيد يتحرك في السماع في بدايته ثم صار لا يتحرك فقيل له في ذلك فقال‏:‏ ‏"‏ وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء ‏"‏ إشارة إلى أن القلب مضطرب جائل في الملكوت والجوارح متأدبة في الظاهر ساكنة‏.‏

وقال أبو الحسن

محمد بن أحمد وكان بالبصرة‏:‏ صحبت سهل بن عبد الله ستين سنة فما رأيته تغير عند شيء كان يسمعه من الذكر أو القرآن فلما كان في آخر عمره قرأ رجل بين يديه‏:‏ ‏"‏ فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ‏"‏ الآية فرأيته قد ارتعد وكاد يسقط فلما عاج إلى حاله سألته عن ذلك فقال‏:‏ نعم يا حبيبي قد ضعفنا‏.‏

وكذلك سمع مرة قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ الملك يومئذ الحق للرحمن ‏"‏ فاضطرب فسأله ابن سالم وكان من أصحابه فقال‏:‏ قد ضعفت‏.‏

فقيل له‏:‏ فإن كان هذا من مضعف فما قوة الحال فقال‏.‏

أن لا يرد عليه وارد إلا وهو يلتقيه بقوة حاله فلا تغيره الواردات وإن كانت قوية‏.‏

وسبب القدرة على ضبط الظاهر مع وجود الوجد استواء الأحوال بملازمة الشهود‏.‏

كان حكي عن سهل رحمه الله تعالى أنه قال‏:‏ حالتي قبل الصلاة وبعدها واحدة لأنه كان مراعياً للقلب حاضر الذكر مع الله تعالى في كل حال‏.‏

فكذلك يكون قبل السماع وبعده‏.‏

إذ يكون وجده دائماً وعطشه متصلاً وشربه مستمراً بحيث لا يؤثر السماع في زيادته‏.‏

كما روى أن ممشاد الدينوري أشرف على جماعة فيهم قوال فسكنوا فقال‏:‏ ارجعوا إلى ما كنتم فيه فلو جمعت ملاهي الدنيا في أذني ما شغل همي ولا شفي بعض ما بي‏.‏

وقال الجنيد رحمه الله تعالى‏:‏ لا يضر نقصان الوجد مع فضل العلم‏.‏

وفضل العلم أتم من فضل الوجد‏.‏

فإن قلت‏:‏ فمثل هذا لم يحضر السماع فاعلم أن من هؤلاء من ترك السماع في كبره وكان لا يحضر إلا نادراً لمساعدة أخ من الإخوان وإدخالاً للسرور على قلبه وربما حضر ليعرف القوم كمال قوته فيعلمون أنه ليس الكمال بالوجد الظاهر فيتعلمون منه ضبط الظاهر عن التكلف وإن لم يقدروا على الإقتداء به في صيرورته طبعاً لهم‏.‏

وإن اتفق حضورهم مع غير أبناء جنسهم فيكونون معهم بأبدانهم نائين عنهم بقلوبهم وبواطنهم‏.‏

كما يجلسون من غير سماع مع غير جنسهم بأسباب عارضة تقتضي الجلوس معهم‏.‏

وبعضهم نقل عنه ترك السماع ويظن أنه كان سبب تركه استغناءه عن السماع بما ذكرناه‏.‏

وبعضهم كان من الزهاد ولم يكن له حظ روحاني في السماع ولا كان من أهل اللهو فتركه لئلا يكون مشغولاً بما لا يعنيه وبعضهم تركه لفقد الإخوان‏.‏

قيل لبعضهم لم لا تسمع فقال‏:‏ ممن ومع من

الأدب الرابع‏:‏ أن لا يقوم ولا يرفع صوته بالبكاء وهو يقدر على ضبط نفسه ولكن إن رقص أو تباكى فهو مباح فيجوز تحريكه‏.‏

ولو كان ذلك حراماً لما نظرت عائشة رضي الله عنها إلى الحبشة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يزفنون هذا لفظ عائشة رضي الله عنها في بعض الروايات‏.‏

وقد روي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنهم حجلوا لما ورد عليهم سرور أوجب ذلك وذلك في قصة ابنة حمزة لما اختصم فيها على بن أبي طالب وأخوه جعفر وزيد بن حارثة رضي الله عنهم فتشاحوا في تربيتها فقال صلى الله عليه وسلم لعلي ‏"‏ أنت مني وأنا منك ‏"‏ فحجل علي وقال لجعفر ‏"‏ أشبهت خلقي وخلقي ‏"‏ فحجل وراء حجل علي وقال لزيد ‏"‏ أنت أخوناً ومولانا ‏"‏ فحجل زيد وراء حجل جعفر ثم قال عليه السلام ‏"‏ هي لجعفر لأن خالتها تحته والخالة والدة ‏"‏ وفي رواية أنه قال لعائشة رضي الله عنها ‏"‏ أتحبين أن تنظري إلى زفن الحبشة ‏"‏ والزفن والحجل هو الرقص‏.‏

وذلك يكون لفرح أو شوق فحكمه حكم مهيجه إن كان فرحه محموداً والرقص يزيده ويؤكده فهو محمود وإن كان مباحاً فهو مباح وإن كان مذموماً فهون مذموم‏.‏

نعم لا يليق اعتياد ذلك بمناصب الأكابر وأهل القدوة لأنه في الأكثر يكون عن لهو ولعب وما له صورة اللعب واللهو في أعين الناس فينبغي أن يجتنبه المقتدي به لئلا يصغر في أعين

الناس فيترك الإقتداء به‏.‏

وأما تمزيق الثياب فلا رخصة فيه إلا عند خروج الأمر عن الاختيار و لا يبعد أن يغلب الوجد بحيث يمزق ثوبه وهو لا يدري لغلبة سكر الوجد عيه أو يدري ولكن يكون كالمضطر الذي لا يقدر على ضبط نفسه وتكون صورته صورة المكره إذ يكون له في الحركة أو التمزيق متنفس فيضطر إليه اضطرار المريض إلى الأنين ولو كلف الصبر عنه لم يقدر عليه مع أنه فعل اختياري فليس كل فعل حصوله بالإرادة يقدر الإنسان على تركه فالتنفس فعل يحصل بالإرادة ولو كلف الإنسان أن يمسك النفس ساعة لاضطر من باطنه إلى أن يختار التنفس‏.‏

فكذلك الزعقة وتمزيق الثياب قد يكون كذلك فهذا لا يوصف بالتحريم‏.‏

فقد ذكر عند السري حديث الوجد الحاد الغالب فقال‏:‏ نعم يضرب وجهه بالسيف وهو لا يدري‏.‏

فروجع فيه واستبعد أن ينتهي إلى هذا الحد فأصر عليه ولم يرجع‏.‏

ومعناه‏:‏ أنه في بعض الأحوال قد ينتهي إلى هذا الحد في بعض الأشخاص‏.‏

فإن قلت‏:‏ فما تقول في تمزيق الصوفية الثياب الجديدة بعد سكون الوجد والفراغ من السماع فإنهم يمزقونها قطعاً صغاراً ويفرقونها على القوم ويسمونها الخرقة فاعلم أن ذلك مباح إذا قطع قطعاً مربعة تصلح لترقيع الثياب والسجادات‏.‏

فإن الكرباس يمزق حتى يخاط منه القميص ولا يكون ذلك تضييعاً لأنه تمزيق لغرض‏.‏

وكذلك ترقيع الثياب لا يمكن إلا بالقطع الصغار وذلك مقصود والتفرقة على الجميع ليعم ذلك الخير مقصود مباح ولكل مالك أن يقطع كرباسه مائة قطعة ويعطيها لمائة مسكين ولكن ينبغي أن يتكون القطع بحيث يمكن أن ينتفع بها في الرقاع‏.‏

وإنما منعنا في السماع التمزيق المفسد للثوب الذي يهلك بعضه بحيث لا يبقى منتفعاً به فهو تضييع محض لا يجوز بالاختيار‏.‏

الأدب الخامس‏:‏ موافقه القوم في القيام إذا قام واحد منهم في وجد صادق من غير رياء وتكلف أو قام باختيار من غير إظهار وجد وقامت له الجماعة فلا بد من الموافقة فذلك من آداب الصحبة‏.‏

وكذلك إن جرت عادة طائفة بتنحية العمامة على موافقة صاحب الوجد إذا سقطت عمامته‏.‏

أو خلع الثياب إذا سقط عنه ثوبه بالتمزيق فالموافقة في هذه الأمور من حسن الصحبة والعشرة إذا المخالفة موحشة ولكل قوم رسم ولا بد من مخالفة الناس بأخلافهم كما ورد في الخبر لا سيما إذا كانت أخلاقاً فيها حسن العشرة والمجاملة وتطييب القلب بالمساعدة‏.‏

وقول القائل‏:‏ إن ذلك بدعة لم يكن في الصحابة فليس كل ما يحكم بإباحته منقولاً عن الصحابة رضي الله عنهم وإنما المحذور ارتكاب بدعة تراغم سنة مأثورة ولم ينقل النهي عن شيء من

هذا‏.‏

والقيام عند الدخول للداخل لم يكن من عادة العرب بل كان الصحابة رضي الله عنهم لا يقومون لرسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأحوال كما رواه أنس رضي الله عنه ولكن إذا مل يثبت فيه نهي عام فلا نرى به بأساً في البلاد التي جرت العادة فيها بإكرام الداخل بالقيام فإن المقصود منه الإحترام والإكرام وتطييب القلب به‏.‏

وكذلك سائر أنواع المساعدات إذا قصد بها تطييب القلب واصطلح عليها جماعة فلا بأس بمساعدتهم عليها بل الأحسن المساعدة إلا فيما ورد فهي نهي لا يقبل التأويل ومن الأدب أن لا يقوم للرقص مع القوم إن كان يستثقل رقصه ولا يشوش عليهم أحوالهم إذ الرقص من غير إظهار التواجد مباح والمتواجد هو الذي يلوح للجميع منه أثر التكلف‏.‏

ومن يقوم عن صدق لا تستثقله الطباع فقلوب الحاضرين إذا كانوا من أرباب القلوب محك للصدق والتكليف‏.‏

سئل بعضهم عن الوجد الصحيح فقال‏:‏ صحته قبول قلوب الحاضرين له إذا كانوا أشكالاً غير أضداد‏.‏

فإن قلت‏:‏ فما بال الطباع تنفر عن الرقص ويسبق إلى الأوهام أنه باطل ولهو ومخالف للدين فلا يراه ذو جد في الدين إلا وينكره

فاعلم أن الجد لا يزيد على جد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد رأى الحبشة يرفنون المسجد وما أنكره لما كان في وقت لائق به وهو العيد ومن شخص لائق به وهو العيد ومن شخص لائق به وهم الحبشة‏.‏

نعم نفرة الطباع عنه لأنه يرى غالباً مقروناً باللهو واللعب واللهو واللعب مباح ولكن للعوام من الزنوج والحبشة ومن أشبههم‏.‏

وهو مكروه لذوي المناصب لأنته لا يليق بهم وما كره لكونه غير لائق بمنصب ذي المنصب فلا يجوز أن يوصف بالتحريم فمن سأل فقيراً شيئاً فأعطاه رغيفاً كان ذلك طاعة مستحسنة ولو سأل ملكاً فأعطاه رغيفاً أو رغيفين لكان ذلك منكراً عند الناس كافة ومكتوباً في تواريخ الأخبار مكن جملة مساوية ويعير به أعقابه وأشياعه ومع هذا فلا يجوز أن يقال ما فعله حرام لأنه من حيث إنه أعطى خبزاً للفقير حسن ومن حيث أنه بالإضافة إلى منصبه كالمنع بالإضافة إلى الفقير مستقبح فكذلك الرقص وما يجري مجراه من المباحات ومباحات العوام سئيات الأبرار وحسنات الأبرار سيئات المقربين ولكن هذا من حيث الالتفات إلى المناصب‏.‏

وأما إذا نظر إليه في نفسه وجب الحكم بأنه هو في نفسه لا تحريم فيه والله أعلم فقد خرج من جملة التفصيل السابق أن السماع قد يكون حراماً محضاً وقد يكون مباحاً‏.‏

وقد يكون مكروهاً وقد يكون مستحباً‏.‏

أما الحرام‏:‏ فهو لأكثر الناس من الشبان ومن غلبت عليهم شهوة الدنيا فلا يحرك السماع منهم إلا ما هو الغالب على قلوبهم من الصفات المذمومة‏.‏

وأما المكروه‏:‏ فهو لمن لا ينزله على صورة المخلوقين ولكنه يتخذه عادة له في أكثر الأوقات على وأما المباح‏:‏ فهو لم لا حظ له منه إلا التلذذ بالصوت الحسن‏.‏

وأما المستحب‏:‏ فهو لمن غلب عليه حب الله تعالى ولم يحرك السماع منه إلا الصفات المحمودة والحمد الله وحده وصلى الله على محمد وآله‏.‏

كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وهو الكتاب التاسع من ربع العادات الثاني من كتب إحياء علوم الدين

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي لا تستفتح الكتب إلا بحمده ولا تستمنح النعم إلا بواسطة كرمه ورفده والصلاة على سيد الأنبياء محمد رسوله وعبده‏.‏

وعلى آله الطيبين وأصحابه الطاهرين من بعده‏.‏

أما بعد‏:‏ فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين ولو طوى بساطه وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة واضمحلت الديانة وعمت الفترة وفشت الضلالة وشاعت الجهالة واستشرى الفساد واتسع الخرق وخربت البلاد وهلك العباد ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد وقد كان الذي خفنا أن يكون فإنا لله وإنا إليه راجعون إذ قد اندرس من هذا القطب عمله وعلمه وانمحق بالكليلة حقيقته ورسمه فاستولت على القلوب مداهنة الخلق وانمحت عنها مراقبة الخالق واسترسل الناس في إتباع الهوى والشهوات استرسال البهائم وعز على بساط الأرض مؤمن صادق لا تأخذه في الله لومة لائم فمن سعى في تلافي هذه الفترة وسد هذه الثلمة إما متكفلاً بعملها أو متقلداً لتنفيذها مجدداً لهذه السنة الدائرة ناهضاً بأعبائها ومتشمراً في إحيائها كان مستأثراً من بين الخلق بإحياء سنة أفضى الزمان إلى إماتتها ومستبداً بقربة تتضاءل درجات القرب دون ذروتها وها نحن نشرح علمه في أربعة أبواب‏.‏

الباب الأول‏:‏ في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفضيلته الباب الثاني‏:‏ في أركانه وشروطه‏:‏ الباب الثالث‏:‏ في مجاريه وبيان المنكرات المألوفة في العادات‏.‏

الباب الرابع‏:‏ في أمر الأمر والسلاطين بالمعروف ونهيهم عن المنكر‏.‏

الباب الأول في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفضيلته

والمذمة في إهماله وإضاعته ويدل على ذلك بعد إجماع الأمة عليه وإشارات العقول السليمة إليه‏:‏ الآيات والأخبار والآثار أما الآيات‏:‏ فقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ‏"‏ ففي الآية بيان الإيجاب فإن قوله تعالى ‏"‏ ولتكن ‏"‏ أمر وظاهر الأمر الإيجاب وفيها بيان أن الفلاح منوط به إذ حصر وقال‏:‏ ‏"‏ وأولئك هم المفلحون ‏"‏ وفيها بيان أنهن فرض كفاية لا فرض عين وأنه إذا قام به أمة سقط أو جماعة سقط الحرج عن الآخرين واختص الفلاح بالقائمين به المباشرين وإن تقاعد عنه الخلق أجمعون عم الحرج كافة القادرين عليه لا محالة وقال تعالى ‏"‏ ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك هم الصالحين ‏"‏ فلم يشهد لهم بالصلاح بمجرد الإيمان بالله واليوم الآخر حتى أضاف إليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ والمؤمنون المؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ‏"‏ فقد نعت المؤمنين بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون

عن المنكر الذي هجر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خارج عن هؤلاء المؤمنين المنعوتين في

هذه الآية وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ‏"‏ وهذا غاية التشديد إذ علل استحقاقهم للعنة بتركهم النهي عن المنكر وقال عز وجل ‏"‏ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ‏"‏ وهذا يدل على فضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ بين أنهم كانوا به خير أمة أخرجت للناس وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون ‏"‏ فبين أنهم استفادوا النجاة بالنهي عن السوء ويدل ذلك على الوجوب أيضاً وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ‏"‏ فقرن ذلك بالصلاة والزكاة في نعت الصالحين والمؤمنين وقال تعالى ‏"‏ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ‏"‏ وهو أمر جزم ومعنى التعاون الحث عليه وتسهيل طرق الخير وسد سبل الشر والعدوان بحسب الإمكان وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون ‏"‏ فبين أنهم أثموا بترك النهي وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض ‏"‏ الآية فبين أنه أهلك جميعهم إلا قليلاً منهم كانوا ينهون عن الفساد وقال تعالى ‏"‏ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ‏"‏ وذلك هو الأمر بالمعروف للوالدين والأقربين وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وإن طائفتنان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ‏"‏ الآية والإصلاح نهي عن البغي وإعادة إلى الطاعة فإن لم يفعل فقد أمر الله تعالى بقتاله فقال ‏"‏ فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله ‏"‏ وذلك هو النهي عن المنكر‏.‏

وأما الأخبار‏:‏ فمنها ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال في خطبة خطبها‏:‏ أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وتؤولونها على خلاف تأويلها ‏"‏ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ‏"‏ وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏"‏ ما من قوم عملوا بالمعاصي وفيهم من يقدر أن ينكر عليهم فلم يفعل إلا يوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده ‏"‏ وروى عن أبي ثعلبة الخشني‏:‏ أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسر قوله تعالى ‏"‏ لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ‏"‏ فقال‏:‏ يا أبا ثعلبة مر بالمعروف وأنه عن المنكر فإذا رأيت شحا مطاعاً وهو متبعاً وديناً مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك ودع عنك العوام إن من ورائكم فتنا كقطع الليل المظلم للمتمسك فهيا بمثل الذي أنتم عليه أجر خمسين منكم ‏"‏ قيل‏:‏ بل منهم يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏"‏ لا بل منكم لأنكم تجدون على الخير أعواناً ولا يجدون عليه أعواناً ‏"‏ وسئل ابن مسعود رضي الله عنه عن تفسير هذه الآية فقال‏:‏ إن هذا ليس زمانها إنها اليوم مقبولة ولكن قد أوشك أن يأتي زمانها تأمرون بالمعروف فيصنع بكم كذا وكذا وتقولون فلا يقبل منكم فحينئذ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم و قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم ثم يدعوا خياركم فلا يستجاب لهم ‏"‏ معناه تسقط مهابتهم من أعين الأشرار فلا يخافونهم‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يا أيها الناس إن الله يقول لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما أعمال البر عند الجهاد في سبيل الله إلا كنفثة في بحر لجي وما جميع أعمال البر والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا كنفثة في بحر لجي ‏"‏ وقال عيه أفضل الصلاة والسلام ‏"‏ إن الله تعالى ليسأل العبد ما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره فإذا لقن الله العبد حجته قال رب وثقت بك وفرقت من الناس ‏"‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إياكم والجلوس على الطرقات قالوا ما لنا بد إنما هي مجالسنا نتحدث فيها قال‏:‏ فإذا أبيتم إلا ذلك فأعطوا الطريق حقها قالوا‏:‏ وما حق الطريق قال‏:‏ غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر أو ذكراً لله تعالى ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الله لا يعذب الخاصة بذنوب العامة حتى يرى المنكر بين أظهرهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه ‏"‏ وروى أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ كيف أنتم إذا طغى نساؤكم وفسق شبانكم وتركتم جهادكم قالوا‏:‏ وإن ذلك لكائن يا رسول الله قال‏:‏ نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون قالوا‏:‏ وما أشد منه يا سول الله كيف أنتم إذا لم تأمروا بمعروف ولم تنهوا عن منكر قالوا‏:‏ وكائن ذلك يا رسول الله قال نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون قالوا‏:‏ وما أشد منه كيف أنتم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً قالوا‏:‏ وكائن ذلك يا رسول الله قال نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون قالوا‏:‏ وما أشد منه قال كيف أنتم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف قالوا‏:‏ وكائن ذلك يا رسول الله قال نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون يقول الله تعالى بي حلفت لأتيحن لهم فتنة يصير الحليم فيها حيران ‏"‏ وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا تقفن عند رجل يقتل مظلوماً فإن اللعنة تنزل على من حضره ولم يدفع عنه ولا تقفن عند رجل يضرب مظلوماً فإن اللعنة تنزل على من حضره ولم يدفع عنه ‏"‏ قال‏:‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا ينبغي لامرئ شهد مقاماً فيه حق إلا تكلم به فإنه لن يقدم أجله ولن يحرمه رزقاً هو له ‏"‏ وهذا الحديث يدل على أنه لا يجوز دخول دور الظلمة والفسقة ولا حضور المواضع التي يشاهد المنكر فيها ولا يقدر على تغييره فإنه قال‏:‏ ‏"‏ اللعنة تنزل على من حضر ‏"‏ ولا يجوز له مشاهدة المنكر من غير حاجة اعتذاراً بأنه عاجز‏.‏

ولهذا اختار جماعة من السلف العزلة لمشاهدتهم المنكرات في الأسواق والأعياد والمجامع وعجزهم عن التغيير وهذا يقتضي لزوم الهجر للخلق‏.‏

ولهذا يقال عمر ابن عبد العزيز رحمه الله‏:‏ ما ساح السواح وخلوا دورهم وأولادهم إلا بمثل ما نزل بنا حين رأوا الشر قد ظهر والخير قد اندرس ورأوا أنه لا يقبل ممن تكلم ورأوا الفتن ولم يأمنوا أن تعتريهم وأن ينزل العذاب بأولئك القوم فلا يسلمون منه فرأوا أن مجاورة السباع وأكل البقول خير من مجاورة هؤلاء في نعيمهم ثم قرأ ‏"‏ ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ‏"‏ قال‏:‏ ففر قوم فلولا ما جعل الله جل ثناؤه في النبوة من السر لقلنا ما هم بأفضل من هؤلاء فيما بلغنا أن الملائكة عليهم السلام لتلقاهم وتصافحهم والسحاب والسباع تمر بأحدهم فيناديها فتجيبه ويسألها أين أمرت فتخبره وليس بنبي‏.‏

وقال أبو هريرة رضي الله عنه‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من حضر معصية فكرهها فكأنه غاب عنها ومن غاب عنها فأحبها فكأنه حضرها ‏"‏ ومعنى

الحديث أن يحضر لحاجة أو يتفق جريان ذلك يديه فأما الحضور قصداً فممنوع بدليل الحديث الأول‏.‏

وقال ابن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما بعث الله عز وجل نبياً إلا وله حوارى فيمكث النبي بين أظهرهم ما شاء الله تعالى يعمل فيهم بكتاب الله وبأمره حتى إذا قبض الله نبيه مكث الحواريون يعملون بكتاب الله وبأمره وبسنة نبيهم فإذا انقرضوا كان من بعدهم قوم يركبون رؤوس المنابر يقولون ما يعرفون ويعملون ما ينكرون فإذا رأيتم ذلك فحق على كل مؤمن جهادهم بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وليس وراء ذلك إسلاماً ‏"‏‏.‏

وقال ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ كان أهل قربه يعملون بالمعاصي وكان فيهم أربعة نفر ينكرون ما يعملون فقام أحدهم فقال‏:‏ إنكم تعملون كذا وكذا فجعل ينهاهم ويخبرهم بقيح ما يصنعون فجعلوا يردون عليه ولا يرعون عن أعمالهم فسبهم فسبوه وقاتلهم فغلبوه فاعتزل ثم قال اللهم إني قد نهيتهم فلم يطيعوني وسببتهم فسبوني وقاتلتهم فغلبوني ثم ذهب ثم قام الآخر فنهاهم فلم يطيعوه فسبهم فسبوه فاعتزل ثم قال اللهم إني قد نهيتهم فلم يطيعوني وسببتهم فسبوني ولو قاتلتهم لغلبوني‏.‏

ثم ذهب ثم قام الثالث فنهاهم فلم يطيعوه فاعتزل ثم قال اللهم إني قد نهيتهم فلم يطيعوني ولو سببتهم لسبوني ولو قاتلتهم لغلبوني‏.‏

ثم ذهب ثم قام الرابع فقال اللهم إني لو نهيتهم لعصوني ولو سببتهم لسبوني ولو قاتلتهم لغلبوني ثم ذهب قال ابن مسعود رضي الله عنه كان الرابع أدناهم منزلة وقيل فيكم مثله وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ قيل يا رسول الله أتهلك القرية وفيها الصالحون قال‏:‏ ‏"‏ نعم ‏"‏ قيل بم يا رسول الله قال‏:‏ ‏"‏ بتهاونهم وسكوتهم على معاصي الله تعالى ‏"‏ وقال جابر بن عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أوحى الله تبارك وتعالى إلى ملك من الملائكة أن أقلب مدينة كذا وكذا على أهلها فقال يا رب إن فيهم عبدك فلاناً لم يعصك طرفة عين قال اقلبها عليه وعليهم فإن وجهه لم يتمعر في ساعة قط ‏"‏ وقالت عائشة رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ عذب أهل قرية فيها ثمانية عشر ألفاً عملهم عمل الأنبياء قالوا يا رسول الله كيف قال لم يكونوا يغضبون الله ولا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر ‏"‏ وعن عروة عن أبيه قال قال موسى صلى الله عليه وسلم يا رب أي عبادك أحب إليك قال الذي يتسرع إلى هواي كما يتسرع النسر إلى هواه والذي يكلف بعبادي الصالحين كما يكلف الصبي بالثدي والذي يغضب إذا أتيت محارمي كما يغضب النمر لنفسه فإن النمر إذا غضب لنفسه لم يبال قل الناس أم كثروا وهذا يدل على فضيلة الحسبة مع شدة الخوف وقال أبو ذر الغفاري‏:‏ قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه‏:‏ يا رسول الله ومن هم قال ‏"‏ الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والمحبون في الله والمبغضون في الله ‏"‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏ والذي نفسي بيده إن العبد منهم ليكون في الغرفة فوق الغرفات فوق غرف الشهداء للغرفة منها ثلثمائة ألف باب منها الياقوت والزمرد الأخضر على كل باب نور وإن الرجل منهم ليزوج بثلثمائة ألف حوراء قاصرات الطرف عين كلما التفت إلى واحدة منهن ذكرت له مقاماً أمر فيه بمعروف ونهى فيه عن منكر ‏"‏ وقال أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قلت‏:‏ يا رسول الله أي الشهداء أكرم على الله عز وجل قال‏:‏ ‏"‏ رجل قام إلى وال جائر فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فقتله فإن لم يقتله فإن القلم لا يجري عليه بعد ذلك وإن عاش ما عاش ‏"‏ وقال الحسن البصري رحمه الله‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أفضل شهداء أمتي رجل قام إلى إمام جائر فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فقتله على ذلك فذلك الشهيد منزلته في الجنة بين حمزة وجعفر ‏"‏ وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ بئس القوم قوم لا يأمرون بالقسط وبئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر ‏"‏‏.‏

وأما الآثار‏:‏ فقد قال أبو الدرداء رضي الله عنه‏:‏ لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو لبسطن الله عليكم سلطاناً ظالماً لا يجل كبيركم ولا يرحم صغيركم ويدعوا عليه خياركم فلا يستجاب لهم وتستنصرون فلا تنصرون وتستغفرون فلا يغفر لكم‏.‏

وسئل حذيفة رضي الله عنه عن ميت الأحياء فقال‏:‏ الذي لا ينكر المنكر بيده ولا بلسانه ولا بقلبه‏.‏

وقال مالك بن دينار‏:‏ كان حبر من أحبار بني إسرائيل يغشى الرجال والنساء منزله يعظهم ويذكرهم بأيام الله عز وجل فرأى بعض بنيه يوماً وقد غمر بعض النساء فقال‏:‏ مهلاً يا بني مهلاً وسقط من سريره فانقطع نخاعه وأسقطت امرأته وقتل بنوه في الجيش فأوحى الله تعالى إلى نبي زمانه‏:‏ أن أخبر فلاناً الحبر أني لا أخرج من صلبك صديقاً أبداً أما كان من غضبك لي إلا أن قلت‏:‏ مهلاً يا بني مهلاً‏.‏

وقال حذيفة‏:‏ يأتي على الناس زمان لأن تكون فيهم جيفة حمار أحب إليهم من مؤمن يأمرهم وينهاهم وأوحى الله تعالى إلى يوشع بن نون عليه السلام إني مهلك من قومك أربعين ألفاً من خيارهم وستين ألفاً من شرارهم فقال‏:‏ يا رب هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار قال‏:‏ إنهم لم يغضبوا لغضبي ووالوهم وشاربوهم‏.‏

وقال بلال بن يعد‏:‏ إن المعصية إذا أخفيت لم تضر إلا صابها فإذا أعلنت ولم تغير أضرت بالعامة وقال كعب الأحبار لأبي مسلم الخولاني‏:‏ كيف منزلتك من قومك قال‏:‏ حسنة‏.‏

قال كعب‏:‏ إن التوراة لتقول غير ذلك قال‏:‏ وما تقول قال‏:‏ تقول إن الرجل إذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ساءت منزلته عند قومه فقال‏:‏ صدقت التوراة وكذب أبو مسلم‏.‏

وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يأتي العمال ثم قعد عنهم فقيل له‏:‏ لو أتيتهم فلعلهم يجدون في أنفسهم فقال‏:‏ أرهب إن تكلمت أن يروا أن الذي بي غير الذي بي وإن سكت رهبت أن آثم‏.‏

وهذا يدل على أن من عجز عن الأمر بالمعروف فعليه أن يبعد عن ذلك الموضع ويستتر عنه حتى لا يجري بمشهد منه‏.‏

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ أول ما تغلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم ثم الجهاد بألسنتكم ثم الجهاد بقلوبكم فإذا لم يعرف القلب المعروف ولم ينكر المنكر نكس فجعل أعلاه أسفله‏.‏

وقال سهل بن عبد الله رحمه الله‏:‏ أيما عبد عمل في شيء من دينه بما أمر به أو نهى عنه وتعلق به عند فساد الأمور وتنكرها وتشوش الزمان فهو ممن قد قام لله في زمانه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏

معناه أنه إذا لم يقدر إلا على نفسه فقام بها وأنكر أحوال الغير بقلبه فقد جاء بما هو الغاية في حقه‏.‏

وقيل للفضيل‏:‏ ألا تأمر وتنهي فقال‏:‏ إن قوماً أمروا ونهوا فكفروا وذلك أنهم لم يصبروا على ما أصيبوا وقيل للثوري‏.‏

ألا تأمر بالمعروف وتنهى فقال‏:‏ إن قوماً أمروا ونهوا فكفروا وذلك أنهم لم يصبروا على ما أصيبوا وقيل للثوري‏.‏

ألا تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فقال إذا انبثق البحر فمن يقدر أن يسكره‏.‏

فقد ظهر بهذه الأدلة أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب وأن فرضه لا يسقط مع القدرة إلا بقيام قائم به‏.‏

فلنذكر الآن شروطه وشروط وجوبه‏.‏

الباب الثاني في أركان الأمر بالمعروف وشروطه

اعلم أن الأركان في الحسبة التي هي عبارة شاملة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أربعة‏:‏ المحتسب والمحتسب عليه والمحتسب فيه ونفس الاحتساب‏.‏

فهذه أربعة أركان ولكل واحد

منها شروط‏.‏

الركن الأول المحتسب وله شروط وهو أن يكون مكلفاً مسلماً قادراً فيخرج منه المجنون والصبي والكافر والعاجز ويدخل فيه آحاد الرعايا وإن لم يكونا مأذونين ويدخل فيه الفاسق والرقيق والمرأة‏.‏

فلنذكر وجه اشتراط ما اشترطناه ووجه إطراح ما أطرحناه‏.‏

أما الشرط الأول‏:‏ وهو التكليف‏:‏ فلا يخفى وجه اشترط فإن غير المكلف لا يلزمه أمر وما ذكرناه أردنا به شرط الوجوب فأما إمكان الفعل وجوازه فلا يستدعي إلا العقل حتى إن الصبي المراهق للبلوغ المميز وإن لم يكن مكلفاً فله إنكار المنكر وله أن يريق الخمر ويكسر

الملاهي وإذا فعل ذلك نال به ثواباً ولم يكن لأحد منعه من حيث إنه ليس بمكلف‏.‏

فإن هذه قربة وهو من أهلها كالصلاة والإمامة وسائر القربات وليس حكمه حكم الولايات حتى يشترط فيه التكليف ولذلك اثبتناه للبعد وآحاد الرعية‏.‏

نعم في المنع بالفعل وإيطال المنكر نوع ولاية وسلطنة ولكنها تستفاد بمجرد الإيمان كقتل المشرك وإبطال أسبابه وسلب أسلحته‏.‏

فإن للصبي أن يفعل ذلك حيث لا يستضر به فالمنع من الفسق كالمنع من الكفر‏.‏

وأما الشرط الثاني وهو الإيمان‏:‏ فلا يخفى وجه اشتراطه لأن هذا نصرة للدين فكيف يكون من أهله من هو جاحد لأصل الدين وعدوله وأما الشرط الثالث وهو العدالة‏:‏ فقد اعتبرها قوم وقالوا ليس للفاسق أن يحتسب وربما استدلوا فيه بالنكير الوارد على من يأمر بما لا يفعله مثل قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏ كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلوا ‏"‏ وبما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي مني وربما استدلوا من طريق القياس بأن هداية الغير فرع للاهتداء وكذلك تقويم الغير فرع للاستقامة والإصلاح زكاة عن نصاب الصلاح فمن ليس بصالح في نفسه فكيف يصلح غيره ومتى يستقيم الظل والعود أعود وكل ما ذكروه خيالات وإنما الحق أن للفاسق أن يحتسب وبرهانه هو أن نقول‏:‏ هل يشترط في الاحتساب أن يكون متعاطياً معصوماً عن المعاصي كلها فإن شرط ذلك فهو خرق للإجماع ثم حسم لباب الاحتساب إذ لا عصمة للصحابة فضلاً عمن دونهم والأنبياء عليهم السلام قد اختلف في عصمتهم عن الخطايا‏.‏

والقرآن العزيز دال على نسبة آدم عليه السلام إلى المعصية وكذا جماعة من الأنبياء‏.‏

ولهذا قال سعيد بن جبير‏:‏ إن لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر إلا من لا يكون فيه شيء لم يأمر أحد بشيء فأعجب مالكاً ذلك من سعيد بن جبير‏.‏

وإن زعموا أ ذلك لا يشترط عن الصغائر حتى يجوز للابس الحرير أن يمنع من الزنا وشرب الخمر فتقول‏:‏ وهل لشارب الخمر أن يغزو الكفار ويحتسب عليهم بالمنع من الكفر فإن قالوا‏:‏ لا خرقوا الإجماع إذ جنود المسلمين لم تزل مشتملة على البر والفاجر وشارب الخمر وظالم الأيتام ولم يمنعوا من الغزو لا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بعده‏.‏

فإن قالوا‏:‏ نعم فنقول‏:‏ شارب الخمر هل له المنع من القتل أم لا فإن قالوا‏:‏ لا قلنا‏.‏

فما الفرق بينه وبين لابس الحرير إذ جاز له المنع من الخمر والقتل كبيرة بالنسبة إلى الشرب كالشرب بالنسبة إلى لبس الحرير فلا فرق‏.‏

وإن قالوا‏:‏ نعم وفصلوا الأمر فيه بأن كل مقدم على شيء فلا يمنع عن مثله ولا عما دونه وإنما يمنع عما فوقه فهذا تحكم فإنه كما لا يبعد أن يمنع الشارب من الزنا والقتل فمن أين يبعد أن يمنع الزاني من الشرب بل من أين يبعد أن يشرب ويمنع غلمانه وخدمه من الشرب ويقول يجب على الانتهاء والنهي فمن أين يلزمني من العصيان بأحدهما أن أعصي الله تعالى بالثاني وإذا كان النهير واجباً علي فمن أين يسقط وجوبه بإقدامي إذ يستحيل أن يقال يجب النهي عن شرب الخمر عليه ما لم يشرب فإذا شرب فإذا شرب سقط النهي‏.‏

فإن قيل‏:‏ فيلزم على هذا أ يقول القائل الواجب على الوضوء والصلاة فأنا أتوضأ وإن لم أصل وأتسحر وإن لم أصم لأن المستحب لي السحور والصوم جميعاً ولكن يقال‏:‏ أحدهما مرتب على

الآخر فكذلك تقويم الغير مرتب على تقويمه نفسه فليبدأ بنفسه ثم بمن يعول‏.‏

والجواب أن التسحر يراد للصوم ولولا الصوم لما كان التسحر مستحباً وما يراد لغيره لا ينفك عن ذلك الغير وإصلاح الغير لا يراد لإصلاح النفس ولا إصلاح النفس لإصلاح الغير فالقول بترتب أحدهما

على الآخر تحكم‏.‏

وأما الوضوء والصلاة فهو لازم فلا جرم أن من توضأ ولم يصل كان مؤدياً أمر الوضوء وكان عقابه أقل من عقاب من ترك الصلاة والوضوء جميعاً فليكن من ترك النهي والانتهاء أكثر عقاباً ممن نهى ولم ينته كيف والوضوء شرط لا يراد لنفسه بل للصلاة فلا حكم له دون الصلاة‏.‏

وأما الحسبة فليست شرطان في الانتهاء والائتمار فلا مشابهة بينهما‏.‏

فإن قيل‏:‏ فيلزم على هذا أن يقال إذا زنى الرجل بامرأة وهي مكرهة مستورة الوجه فكشفت وجهها باختيارها فأخذ الرجل يحتسب في أثناء الزنا ويقول‏:‏ أنت مكرهة في الزنا ومخارة في كشف الوجه لغير محرم وها أنا غير محرم لك فاسترى وجهك فهذا احتساب شنيع يستنكره قلب كل عاقل ويستشنعه كل طبع سليم فالجواب أن الحق قد يكون شنيعاً وأن الباطل قد يكون مستحسناً بالطباع والمتبع الدليل دون نفرة الأوهام والخيالات فإنا نقول‏:‏ قوله لها في تلك الحالة لا تكشفي وجهك واجب أو مباح أو حرام فإن قلتم‏:‏ إنه واجب فهو الغرض لأن الكشف معصية والنهي عن المعصية حق‏.‏

وإن قلتم‏:‏ إنه مباح فإذن له أن يقول ما هو مباح فما معنى قولكم ليس للفاسق الحسبة وإن قلتم‏:‏ إنه حرام فنقول وكان هذا واجباً فمن أين حرم بإقدامه على الزنا ومن الغريب أن يصير الواجب حرماً بسبب ارتكاب حرام آخر‏.‏

وأما نفرة الطباع عنه واستنكارها له فهو لسببين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه ترك الأهم واشتغل بما هو مهم‏.‏

وكما أن الطباع تنفر عن ترك المهم إلى ما لا يعني

فتتنفر عن ترك الأهم والاشتغال بالمهم كما تنفر عمن يتحرج عن تناول طعام مغصوب وهو مواظب على الربا وكما تنفر عمن يتصاون عن الغيبة ويشهد بالزور لأن الشهادة بالزور أفحش وأشد من الغيبة التي هي إخبار عن كائن يصدق فيه المخبر وهذا الاستبعاد في النفوس لا يدل على أن ترك الغيبة ليس بواجب وأنه لو اغتاب أو أكل لقمة من حرام لم تزد بذلك عقوبته فكذلك ضرره في الآخرة من معصيته أكثر من ضرره من معصية غيره فاشتغاله عن الأقل بالأكثر مستنكر في الطبع من حيث إنه ترك الأكثر لا من حيث إنه أتى بالأقل فمن غصب فرسه ولجام فرسه فاشتغل بطلب اللجام وترك الفرس نفرت عنه الطباع ويرى مسيئاً إذ قد صدر منه طلب اللجام وهو غير منكر ولكن المنكر تركه لطلب الفرس بطلب اللجام فاشتد الإنكار عليه لتركه الأهم بما دونه فكذلك حسبة الفاسق تستبعد من هذا الوجه وهذا لا يدل على أن حسبته من حيث إنها حسبة مستنكرة‏.‏

الثاني‏:‏ أن الحسبة تارة تكون بالنهي بالوعظ وتارة بالقهر ولا ينجع وعظ من لا يتعظ أولاً ونحن نقول‏:‏ من علم أن قوله لا يقبل في الحسبة لعلم الناس بفسقه فليس عليه الحسبة بالوعظ إذ لا فائدة في وعظه فالفسق يؤثر في إسقاط فائدة كلامه ثم إذا سقطت فائدة كلامه سقط وجوب الكلام فأما إذا كانت الحسبة بالمنع فالمراد منه القهر وتمام القهر أن يكون بالفعل والحجة جميعاً وإذا كان فاسقاً فإن قهر بالفعل فقد قهر بالحجة إذ يتوجه عليه أن يقال له‏:‏ فأنت لمن تقدم عليه فتنفر الطباع عن قهره بالفعل مع كونه مقهوراً بالحجة وذلك لا يخرج الفعل عن كونه حقاً كما أ يذب الظالم عن آحاد المسلمين ويهمل أباه وهو مظلوم معهم تنفر الطباع عنه ولا يخرج دفعه عن المسلم عن كونه حقاً‏.‏

فخرج من هذا أن الفاسق ليس عليه الحسبة بالوعظ على من يعرف فسقه لأنه لا يتعظ وإذا لم يكن عليه ذلك وعلم أنه يفضى إلى تطويل اللسان في عرضه بالإنكار فنقول‏:‏ ليس له ذلك أيضاً‏.‏

فرجع الكلام إلى أن أحد نوعي الاحتساب وهو الوعظ قد بطل بالفسق وصارت العدالة مشروطة فيه‏:‏ وأما الحسبة القهرية فلا يشترط فيها ذلك فلا حرج على الفاسق في إراقة الخمور وكسر الملاهي وغيرها إذا قدر وهذا غاية الإنصاف والكشف في المسألة وأما الآيات التي استدلوا بها فهو إنكار عليهم من حيث تركهم المعروف لا من حيث أمرهم‏.‏

ولكن أمرهم دل على قوة علمهم وعقاب العالم أشد لأنه لا عذر له مع قوة علمه وقوله تعالى ‏"‏ لم تقولون ما لا تفعلون ‏"‏ المراد به الوعد الكاذب وقوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ وتنسون أنفسكم ‏"‏ إنكار من حيث إنهم نسوا أنفسهم لا من حيث إنهم أمروا غيرهم ولكن ذكر أمر الغير استدلالاً به على علمهم وتأكيداً للحجة عليهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ يا ابن مريم عظ نفسك‏.‏

‏.‏

‏.‏

‏.‏

الحديث ‏"‏ هو في الحسبة بالوعظ‏.‏

وقد سلمنا أن وعظ الفاسق ساقط الجدوى عند من يعرف فسقه‏.‏

ثم قوله ‏"‏ فاستحى مني ‏"‏ لا يدل على تحريم وعظ الغير بل معناه استحى مني فلا تترك الأهم وتشتغل بالمهم كما يقال احفظ أباك ثم جارك وإلا فاستحي‏.‏

فإن قيل‏.‏

فليجز للكافر الذمي أن يحتسب على المسلم إذا رآه يزني لأن قوله لا تزن حق في نفسه فمحال أن يكون حراماً عليه بل ينبغي أن يكون مباحاً أو واجباً‏.‏

قلنا‏:‏ الكافر إن منع المسلم بفعله فهو تسلط عليه من حيث إنه نهى عن الزنا ولكن من حيث إنه إظهار دالة الاحتكام على المسلم وفيه إذلال للمحتكم عليه والفاسق يستحق الإذلال ولكن لا من الكافر الذي هو أولى بالذل منه‏.‏

فهذا وجه منعنا إياه من الحسبة وإلا فلسنا نقول إن الكافر يعاقب بسبب قوله‏:‏ لا تزن من حيث إنه نهى بل نقول إنه إذا لم يقل لا تزن يعاقب عليه إن رأينا خطاب الكافر بفروع الدين وفيه نظر استوفيناه في الفقهيات ولا يليق بغرضنا الآن‏.‏

الشرط الرابع‏:‏ كونه مأذوناً من جهة الغمام والوالي فقد شرط قوم هذا الشرط ولم يثبتوا للآحاد من الرعية عصى إذ يجب نهيه أينما رآه وكيفما رآه على العموم فالتخصيص بشرط التفويض من الإمام تحكم لا أصل له‏.‏

والعجب أن الروافض زادوا على هذا فقالوا‏:‏ لا يجوز الأمر بالمعروف ما لم يخرج الإمام المعصوم وهو الإمام الحق عندهم وهؤلاء أخس رتبة من أن يكلموا بل جوابهم أن يقال لهم‏:‏ إذا جاءوا إلى القضاء طالبين لحقوقهم في دمائهم وأموالهم إن نصرتكم أمر بالمعروف وما هذا زمان النهي عن الظلم وطلب الحقوق لأن الإمام الحق بعد لم يخرج‏.‏

فإن قيل‏:‏ في الأمر بالمعروف إثبات سلطنة وولاية واحتكام على المحكوم عليه ولذلك لم يثبت للكافر على المسلم مع كونه حقاً فينبغي أن لا يثبت لآحاد الرعية إلا بتفويض من الوالي وصاحب الأمر فنقول‏:‏ أما الكافر فممنوع لما فيه من السلطنة وعز الاحتكام والكافر ذليل فلا يستحق أن ينال عز التحكم على المسلم وأما آحاد المسلمين فيستحقون هذا العز بالدين والمعرفة وما فيه من عز السلطنة والاحتكام لا يحوج إلى تفويض كعز التعليم والتعريف إذ لا خلاف في أن تعريف التريم والإيجاب لمن هو جاهر ومقدم على المنكر بجهله لا يحتاج إلى إذن الوالي وفيه عز الإرشاد وعلى المعرف ذل التجهيل وذلك يكفي فيه مجرد الدين وكذلك النهي‏.‏

وشرح القول في هذا أن الحسبة لها خمس مراتب كما سيأتي أولها‏:‏ التعريف والثاني‏:‏ الوعظ بالكلام اللطيف والثالث‏:‏ السب والتعنيف ولست أعني بالسب الفحش بل أن يقول‏:‏ يا جاهل يا أحمق ألا تخاف الله وما يجري هذا المجرى والرابع‏:‏ المنع بالقهر بطريق المباشرة ككسر الملاهي وإراقة الخمر واختطاف الثوب الحرير من لابسه واستلاب الثوب المغصوب منه ورده على صاحبه‏.‏

والخامس‏:‏ التخويف والتهديد بالضرب ومباشرة الضرب له حتى يمتنع عما هو عليه كالمواظب على الغيبة والقذف فإن سلب لسانه غير ممكن ولكن يحمل على اختيار السكوت بالضرب‏.‏

وهذا قد يحوج إلى استعانة وجمع أعوان من الجانبين ويجر ذلك إلى قتال وسائر المراتب لا يخفى وجه استغنائها عن إذن الإمام إلا المرتبة الخامسة فإن فيها نظراً سيأتي أما التعريف والوعظ فكيف يحتاج إلى إذن الإمام وأما التجهيل والتحميق والنسبة إلى الفسق وقلة الخوف من الله وما يجري مجراه فهو كلام صدق و والصدق مستحق بل أفضل الدرجات كلمة حق عند إمام جائر كما ورد في الحديث فإذا جاز الحكم على الإمام على مراغمته فكيف يحتاج إلى إذنه وكذلك كسر الملاهي وإراقة الخمور فإنه تعاطي ما يعرف كونه حقاً من غير اجتهاد فلم يفتقر إلى الإمام‏.‏

وأما جمع الأعوان وشهر الأسلحة فذلك قد يجر إلى فتنة عامة ففيه نظر سيأتي واستمرار عادات السلف على الحسبة على الولاة قاطع بإجماعهم على الاستغناء عن التفويض بل كل من أمر بحروف فإن كان الوالي راضياً فذاك وإن كان ساخطاً له فسخطه له منكر يجب الإنكار عليه فكيف يحتاج إلى إذنه في الإنكار عليه‏.‏

ويدل على ذلك عادة السلف في الإنكار على الأئمة‏.‏

كما روي أن مروان بن الحكم خطب قبل صلاة العيد فقال له رجل‏:‏ إنما الخطبة بعد الصلاة فقال له مروان‏:‏ اترك ذلك يا فلان فقال أبو سعيد‏:‏ أما هذا فقد قضى ما عليه‏.‏

قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من رأى منكم منكراً فلينكره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ‏"‏ فلقد كانوا فهموا من هذه العمومات دخول السلاطين تحتها فكيف يحتاج إلى إذنهم وروي أن المهدي لما قدم مكة لبث بها ما شاء الله فلما أخذ في الطواف نحى الناس عن البيت فوثب عبد الله بن مرزوق فلببه بردائه ثم هزه وقال له‏:‏ انظر ما تصنع من جعلك بهذا البيت أحق ممن أتاه من العبد حتى إذا صار عنده حلت بينه وبينه وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ سواء العاكف فيه والباد ‏"‏ من جعل لك هذا فنظر في وجهه وكان بعرفه لأنه من مواليهم فقال‏:‏ أعبد الله ابن مرزوق قال‏:‏ نعم فأخذ فجئ به إلى بغداد فكره أن يعاقبه عقوبة يشنع بها عليه في العامة فجعله في اصطبل الدواب ليسوس الدواب وضموا إليه فرساً عضوضاً سيئ الخلق ليعقره الفرس فلين الله تعالى له الفرس قال‏:‏ ثم صيروه إلى بيت وأغلق عليه وأخذ المهدي المفتاح عنده فإذا هو قد خرج بعد ثلاث إلى البستان يأكل البقل فأوذن به المهدي فقال له‏:‏ من أخرك فقال‏:‏ الذي حبسني فضج المهدي وصاح وقال‏:‏ ما تخاف أن أقتلك فرفع عبد الله إليه رأسه يضحك وهو يقول‏:‏ لو كنت تملك حياة أو موتاً‏!‏ فما زال محبوساً حتى مات المهدي ثم خلوا عنه فرجع إلى مكة‏.‏

قال‏:‏ وكان قد جعل على نفسه نذراً إن خلصه الله من أيديهم أن ينحر مائة بدنة فكان يعمل في ذلك حتى نحرها‏.‏

وروى عن حبان بن عبد الله قال‏:‏ تنزه هرون الرشيد بالدوين ومعه رجل من بني هشام وهو سليمان بن أبي جعفر فقال له هرون‏:‏ قد كانت لك جارية تغني فتحسن فجئنا بها قال‏:‏ فجاءت فغنت فلم يحمد غناءها فقال لها‏:‏ ما شأنك فقالت‏:‏ ليس هذا عودي فقال للخادم جئنا بعودها قال‏:‏ فجاء بالعود فوافق شيخاً يلقط النوى فقال‏:‏ الطريق يا شيخ فرفع الشيخ رأسه فرأى العود فأخذه من الخادم فضرب به الأرض فأخذه الخادم وذهب به إلى صاحب الربع فقال‏:‏ احتفظ بهذا فإنه طلبة أمير المؤمنين فقال له صاحب الربع‏:‏ ليس ببغداد أعبد من هذا فكيف يكون طلبة أميسر المؤمنين فقال له‏:‏ اسمع ما أقول لك ثم دخل على هرون فقال‏:‏ إني مررت على شيخ يلقط النوى فقلت له‏:‏ الطريق فرفع رأسه فرأى العود فأخذه فضرب به الأرض فكسره فاستشاط هرون وغضب واحمرت عيناه فقال له سليمان بن أبي جعفر‏:‏ ما هذا الغضب يا أمير المؤمنين ابعث إلى صاحب الربع يضرب عنقه ويرم به في الدجلة فقال‏:‏ لا ولكن نبعث إليه وناظره أولاً فجاء الرسول فقال‏:‏ أجب أمير المؤمنين فقال‏:‏ نعم قال‏:‏ اركب قال‏:‏ لا فجاء يمشي حتى وقف على باب القصر فقيل لهرون‏:‏ قد جاء الشيخ فقال للندماء أي شيء ترون نرفع ما قدامنا من المنكر حتى يدخل هذا الشيخ أو نقوم إلى مجلس آخر ليس فيه منكر فقالوا له‏:‏ نقوم إلى مجلس آخر ليس فيه منكر أصلح فقاموا إلى مجلس ليس فيه منكر ثم أمر بالشيخ فأدخل‏.‏

وفي كمه الكيس الذي فيه النوى فقال له الخادم‏:‏ أخرج هذا من كمك وادخل على أمير المؤمنين فقال‏:‏ من هذا عشائي الليلة قال نحن نعشيك‏.‏

قال‏:‏ لا حاجة لي في عشائكم فقال هرون للخادم‏:‏ أي شيء يريد منه قال في كمه نوى قلت له اطرحه وادخل على أمير المؤمنين فقال‏:‏ دعه لا يطرحه قال‏:‏ فدخل وسلم وجلس فقال له هرون‏:‏ يا شيخ ما حملك على ما صنعت قال‏:‏ وأي شيء صنعت وجعل هرون يستحي أن يقول كسرت عودي فلما أكثر عليه قال‏:‏ إني سمعت أباك وأجدادك يقرءون هذه الآية على المنبر‏:‏ ‏"‏ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ‏"‏ وأنا رأيت منكراً فغيرته فقال‏:‏ فغيره‏.‏

فوالله ما قال إلا هذا فلما خرج أعطى الخليفة رجلاً بدرة وقال‏:‏ اتبع الشيخ فإن رأيته يقول‏:‏ قلت لأمير المؤمنين وقال لي فلا تعطه شيئاً وإن رأيته لا يكلم أحداً فأعطه البدرة‏.‏

فلما خرج من القصر إذا هو بنواة في الأرض قد غاصت فجعل يعالجها ولم يكلم أحداً فقال له‏:‏ يقول لك أمير المؤمنين خذه هذه البدرة فقال‏:‏ قل لأمير المؤمنين يردها من حيث أخذها‏.‏

ويروى أنه أقبل بعد فراغه من كلامه على النواة التي يعالج قلعها من الأرض وهو يقول‏:‏ أرى الدنيا لمن هي في يديه هموماً كلما كثرت لديه تهين المكرمين لها بصغر وتكرم كل من هانت عليه إذا استغنيت عن شيء فدعه وخذ ما أنت محتاج إليه وعن سفيان الثوري رحمه اله قال‏:‏ حج المهدي سنة ست وستين ومائة فرأيته يرمي جمرة

العقبة والناس يخبطون يمينا وشمالاً بالسياط فوقفت فقلت‏:‏ يا حسن الوجه حدثنا أيمن عن وائل عن قدامة بن عبد الله الكلابي قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة يوم النحر على جمل لا ضرب ولا طردو ولا جلد ولا إليك إليك وها أنت يخبط الناس بين يديك يميناً وشمالاً‏.‏

فقال الرجل‏:‏ من هذا قال‏:‏ سفيان الثوري‏.‏

فقال‏:‏ يا سفيان لو كان المنصور ما احتملك على هذا فقال‏:‏ لو أخبرك المنصور لقى لقصرت عما أنت فيه‏.‏

فقيل له إنه قال لك يا حسن الوجه ولم يقل لك يا أمير المؤمنين فقال‏:‏ اطلبوه فطلب سفيان فاختفى وقد روى عن المأمون أنه بلغه أن رجلاً محتسباً يمشي في الناس يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر‏.‏

ولم يكن مأموراً من عنده بذلك فأمر بأن يدل عليه‏.‏

فلما صار بين يديه قال له‏:‏ إنني بلغني أنك رأيت

نفسك أهلاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير أن نأمرك وكان المأمون جالساً على كرسي ينظر في كتاب أو قصة فأغفله فوقع منه فصار تحت قدمه من حيث لم يشعر به‏.‏

فقال له المحتسب‏:‏ ارفع قدمك عن أسماء الله تعالى ثم قل ما شئت فلم يفهم المأمون مراد فقال ماذا تقول حتى أعاده ثلاثاً فلم يفهم‏.‏

فقال‏:‏ إما رفعت أو أذنت لي حتى أرفع‏.‏

فنظر المأمون تحت قدمه فرأى الكتاب فأخذه وقبله وخجل‏.‏

ثم عاد وقال‏:‏ لم تأمر بالمعروف وقد جعل الله ذلك إلينا أهل البيت ونحن الذين قال الله تعالى فيهم‏:‏ ‏"‏ الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ‏"‏ فقال‏:‏ صدقت يا أيمر المؤمنين أنت كما وصفت نفسك من السلطان والتمكن غير أنا أعوانك وأولياؤك فيه‏.‏

ولا ينكر ذلك إلا من جهل كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف ‏"‏ الآية‏.‏

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ‏"‏ وقد مكنت في الأرض وهذا كتاب الله وسنة رسوله فإن انقدت لهما شكرت لمن أعانك لحرمتهما‏.‏

وإن استكبرت عنهما ولم تنقد لما لزمك منهما فإن الذي إليه أمرك وبيده عزك وذلك قد شرط أنه لا يضيع أجر من أحسن عملاً فقل الآن ما شئت فأعجب المأمون بكلامه وسر به وقال‏:‏ مثلك يجوز له أن يأمر بالمعروف‏.‏

فامض على ما كنت عليه بأمرنا وعن رأينا‏.‏

فاستمر الرجل على ذلك‏.‏

ففي سياق هذه الحكايات بيان الدليل على الاستغناء عن الإذن‏.‏

فإن قيل‏:‏ أفتثبت ولاية الحسبة للولد على الوالد والعبد على المولى والزوجة على الزوج والتلميذ على الأستاذ ولرعية على الوالي مطلقاً‏.‏

كما يثبت للوالد على الولد والسيد على العبد والزوج على الزوجة والأستاذ على التلميذ والسلطان على الرعية أو بينهما فرق فاعلم أن الذي نراه‏:‏ أنه يثبت أصل الولاية ولكن بينهما فرق في التفصيل‏.‏

ولنفرض ذلك في الولد مع الوالد مع الوالد فنقول‏:‏ قد رتبنا للحسبة خمس مراتب وللولد الحسبة بالرتبتين الأوليين وهما‏:‏ التعريف ثم الوعظ والنصح باللطف‏.‏

وليس له الحسبة بالسب والتعنيف والتهديد ولا بمباشرة الضرب وهما الرتبتان الأخيرتان وهل له الحسبة بالتربة الثالثة حيث تؤدي إلى أذى الوالد وسخطه هذا فيه نظر وهو بأن يكسر مثلاً عوده ويريق خمره ويحل الخيوط عن ثيابه المنسوجة من الحرير ويرد إلى الملاك ما يجده في بيته من المال الحرام الذي غصبه أو سرقه أو أخذه عن إدرار رزق من ضريبة المسلمين إذا كان صاحبه معيناً ويبطل الصور المنقوشة على حيطانه والمنقورة في خشب بيته ويكسر أواني الذهب والفضة فإن فعله في هذا الأمور ليس يتعلق بذات الأب خلاف الضرب والسب ولكن الوالد يتأذى به ويسخط بسببه إلا أن فعل الولد حق وسخط الأب منشؤه به للباطل وللحرام والأظهر في القياس أنه يثبت للولد ذلك بل يلزمه أن يفعل ذلك ولا يبعد أن ينظر فيه إلى قبح المنكر وإلى مقدار الأذى والسخط‏.‏

فإن كان المنكر فاحشاً وسخطه عليه قريباً كإراقة خمر من لا يشتد غضبه فذلك ظاهر وإن كان المنكر قريباً والسخط شديداً كما لو كانت له آنية من بلور أو زجاج على صور حيوان وفي كسرها خسران مال كثير فهذا مما يشتد فيه الغضب وليس تجري هذه المعصية مجرى الخمر وغيره فهذا كله مجال النظر‏.‏

فإن قيل‏:‏ ومن أين قلتم ليس له الحسبة بالتعنيف والضرب والإرهاق إلى ترك الباطل والأمر بالمعروف في الكتاب والسنة ورد عاماً من غير تخصيص وأما النهي عن التأفيف والإيذاء فقد ورد وهو خاص فيما لا يتعلق بارتكاب المنكرات فنقول‏:‏ قد ورد في حق الأب على الخصوص ما يوجب الاستثناء من العموم إ لا خلاف في أن الجلاد ليس له أن يقتل أباه في الزنا حداً ولا له

أن يباشر إقامة الحد عليه بل لا يباشر قتل أبيه الكافر بل لو قطع يده لم يلزمه قصاص ولم يكن له أن يؤذيه في مقابلته‏.‏

وقد ورد في ذلك أخبار وثبت بعضها بالإجماع فإذا لم يجز له إيذاؤه بعقوبة هي حق على جناية سابقة فلا يجوز له إيذاؤه بعقوبة هي منع عن جناية مستقبلة متوقعة بل أولى‏.‏

وهذا الترتيب أيضاً ينبغي أن يجري في العبد والزوجة مع السيد والزوج فهما قريبان من الولد في لزوم الحق وإن كان ملك اليمين آكد من ملك النكاح‏.‏

ولكن في الخبر أنه لو جاز السجود لمخلوق

لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها وهذا يدل على تأكيد الحق أيضاً‏.‏

وأما الرعية مع السلطان فالأمر فيها أشد من الولد فليس لها معه إلا التعريف والنصح‏:‏ فأما الرتبة الثالثة ففيها نظر من حيث إن الهجوم على أخذ الأموال من خزانته وردها إلى الملاك وعلى تحليل الخيوط من ثيابه الحرير وكسر آنية الخمور في بيته يكاد يفضى إلى خرق هيبته وإسقاط حشمته وذلك محظور ورد النهي عنه كما ورد النهي عن السكوت على المنكر فقد تعارض فيه أيضاً محذوران والأمر فيه موكول إلى اجتهاد منشؤه النظر في تفاحش المنكر ومقدار ما يسقط من حشمته بسبب الهجوم عليه وذلك مما لا يمكن ضبطه‏.‏

وأما التلميذ والأستاذ فالأمر فيما بينهما أخف لأن المحترم هو الأستاذ المفيد للعلم من حيث الدين ولا حرمة لعالم لا يعمل بعلمه فله أن يعامله بموجب علمه الذي تعلمه منه‏.‏

وروي أنه سئل الحسن عن الولد كيف يحتسب على والده فقال‏:‏ يعظه ما لم يغضب فإن غضب سكت عنه‏.‏

الشرط الخامس‏:‏ كونه قادراً ولا يخفى أن العاجز ليس عليه حسبة إلا بقلبه إذ كل من أحب الله يكره معاصيه وينكرها‏.‏

وقال ابن مسعود رضي الله عنه جاهدوا الكفار بأيديكم فإن لم تستطيعوا إلا أن تكفهروا في وجهوهم فافعلوا‏.‏

واعلم أنه لا يقف سقوط الوجوب على العجز الحسي بل يلتحق به ما يخاف عليه مكروهاً يناله فذلك في معنى العجز وكذلك إذا لم يخف مكروهاً ولكن علم أن إنكاره لا ينفع فليلتفت إلى معنيين أحدهما‏:‏ عدم إفادة الإنكار امتناعاً والآخر‏:‏ خوف مكروه‏.‏

ويحصل في اعتبار المعنيين أربعة أحوال أحدهما‏:‏ أن يجتمع المعنيان بأن يعلم أنه لا ينفع كلامه ويضرب إن تكلم فلا تجب علي الحسبة بل ربما تحرم في بعض المواضع‏.‏

نعم يلزمه أن لا يحضر مواضع المنكر ويعتزل في بيته حتى لا يشاهد ولا يخرج إلا لحاجة مهمة أو واجب ولا يلزمه مفارقة تلك البلدة والهجرة إلا إذا كان يرهق إلى الفساد أو يحمل على مساعدة السلاطين في الظلم والمنكرات فيلزمه الهجرة إن قدر عليها فإن الإكراه لا يكون عذراً في حق من يقدر على الهرب من الإكراه‏.‏

الحالة الثانية‏:‏ أن ينتقى المعنيان جميعاً بأن يعلم أن المنكر يزول بقوله وفعله ولا يقدر له على مكروه فيجب عليه الإنكار وهذه هي القدرة المطلقة‏.‏

الحالة الثالثة‏:‏ أن يعلم أنه لا يفيد إنكاره لكنه لا يخاف مكروهاً فلا تجب عليه الحسبة لعدم فائدتها ولكن تستحب لإظهار شعائر الإسلام وتذكير الناس بأمر الدين‏.‏

الحالة الرابعة‏:‏ عكس هذه وهو أن يعلم أنه يصاب بمكروه ولكن يبطل المنكر بفعله كما يقدر على أن يرمي زجاجة الفاسق بحجر فيكسرها ويريق الخمر أو يضرب العود الذي في يده ضربة مختطفة فيكسره في الحال ويتعطل عليه هذا المنكر ولكن يعلم أنه يرجع إليه

فيضرب رأسه فهذا ليس بواجب وليس بحرام بل هو مستحب‏.‏

ويدل عليه الخبر الذي أوردناه في فضل كلمة حق عند إمام جائر ولا شك في أن ذلك مظنة الخوف‏.‏

ويدل عليه أيضاً ما روي عن أبي سليمان الداراني رحمه الله تعالى أنه قال‏:‏ سمعت من بعض الخلفاء كلاماً فأردت أن أنكر عليه وعلمت أني أقتل ولم يمنعني القتل ولكن كان في ملأ من الناس فخشيت أن يعتريني التزين للخلق فأقتل من غير إخلاص في الفعل‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما معنى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ‏"‏ قلنا‏:‏ لا خلاف في أن المسلم الواحد له أن يهجم على صف الكفار ويقاتل وإن علم أنه يقتل وهذا ربما يظن أنه مخالف لموجب الآية وليس كذلك فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ليس التهلكة ذلك بل ترك النفقة في طاعة الله تعالى أي من لم يفعل ذلك فقد أهلك نفسه‏.‏

وقال البراء بن عازب‏:‏ التهلكة هو أن يذنب الذنب ثم يقول لا يتاب علي‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ هو أن يذنب ثم لا يعمل بعده خيراً حتى يهلك‏.‏

وإذا جار أن يقاتل الكفار حتى يقتل جاز أيضاً له ذلك في الحسبة ولكن لو علم

أنه لا نكاية لهجومه على الكفار كالأعمى يطرح نفسه على الصف أو العاجز فذلك حرام وداخل تحت عموم آية التهلكة‏.‏

وإنما جاز له الإقدام إذا علم أنه يقاتل إلى أن يقتل أو علم أنه يكسر قلوب الكفار بمشاهدتهم جراءته واعتقادهم في سائر المسلمين قلة المبالاة وحبهم للشهادة في سبيل الله فتنكسر بذلك شوكتهم فكذلك يجوز للمحتسب واعتقادهم في سائر المسلمين قلة

المبالاة وحبهم للشهادة في سبيل الله فتنكسر بذلك شوكتهم فكذلك يجوز للمحتسب بل يستحب له أن يعرض نفسه للضرب وللقتل إذا كان لحسبته تأثير في رفع المنكر أو في كسر جاه الفاسق أو في تقوية قلوب أهل الدين وأما إن رأى فاسقاً متغلباً وعنده سيف وبيده قدح وعلم أنه لو أنكر عليه لشرب القدح وضرب رقبته فهذا مما لا أرى للحسبة فيه وجهاً وهو عين الهلاك‏.‏

فإن المطلوب أن يؤثر في الدين أثراً ويفديه بنفسه فأما تعريض النفس للهلاك من غير أثر فلا وجه له بل ينبغي أن يكون حراماً‏.‏

وإنما يستحب له الإنكار إذا قدر على إبطال المنكر أو ظهر لفعله فائدة وذلك بشرط أن يقتصر المكروه عليه‏.‏

فإن علم أنه يضرب معه غيره من أصحابه أو أقاربه أو رفقائه فلا تجوز له الحسبة بل تحرم لأنه عجز عن دفع المنكر إلا بأن يفضى ذلك إلى منكر آخر وليس ذلك من القدرة في شيء بل لو علم أنه لو احتسب لبطل ذلك المنكر ولكن كان ذلك سبباً لمنكر آخر يتعاطاه غير المحتسب عليه فلا يحل له الإفكار الأظهر لأن المقصود عدم مناكير الشرع مطلقاً لا من زيد أو عمرو وذلك بأن يكون مثلاً مع الإنسان شراب حلال نجس بسبب وقوع نجاسة فيه وعلم أنه لو أراقه لشرب صاحبه الخمر أو تشرب أولاده الخمر لإعوازهم الشراب الحلال فلا معنى لإراقة ذلك‏.‏

ويحتمل أن يقال إنه يريق ذلك فيكون هو مبطلاً لمنكر‏.‏

وأما شرب الخمر فهو الملوم فيه والمحتسب غير قادر على منعه من ذلك المنكر وقد ذهب إلى هذا ذاهبون‏.‏

وليس ببعيد فإن هذه مسائل فقهية لا يمكن فيها الحكم فيها إلا بظن ولا يبعد أن يفرق بني درجات المنكر المغير والمنكر الذي تفضى إليه الحسبة والتغيير فإنه إذا كان يذبح شاة لغيره ليأكلها وعلم أنه لو منعه من ذلك لذبح إنساناً وأكله فلا معنى لهذه الحسبة‏.‏

نعم لو كان منعه عن ذبح إنسان أو قطع طرقه يحمله على أخذ ماله فذلك

له وجه‏.‏

فهذه دقائق واقعة في محل الاجتهاد وعلى المحتسب إتباع اجتهاده في ذلك كله ولهذه الدقائق نقول‏:‏ العامي ينبغي له أن لا يحتسب إلا في الجليلات المعلومة كشرب الخمر والزنا وترك الصلاة فأما ما يعلم كونه معصية بالإضافة إلى ما يطيف به من الأفعال ويفتقر فيه إلى اجتهاد فالعامي إن خاض فيه كان ما يفسده أكثر مما يصلحه وعن هذا يتأكد ظن من لا يثبت ولاية الحسبة إلا بتعيين الوالي إذ ربما ينتدب لها من ليس أهلاً لها لقصور معرفته أو قصور ديانته فيؤدي ذلك إلى وجوه من الخلل وسيأتي كشف الغطاء عن ذلك إن شاء الله‏.‏

فإن قيل‏:‏ وحيث أطلقتم العلم بأن يصيبه مكروه أو أنه لا تفيد حسبته فلو كان بدل العلم فما حكمه قلنا‏:‏ الظن الغالب في هذه الأبواب في معنى العلم وإنما يظهر الفرق عند تعارض الظن والعلم إذ يرجح العلم اليقيني على الظن ويفرق بين العلم والظن في مواضع آخر وهو أنه يسقط وجوب الحسبة عنه حيث علم قطعاً أنه لا يفيد فإن كان غالب ظنه أنه لا يفيد ولكن يحتمل أن يفيد وهو منع ذلك لا يتوقع مكروهاً فقد اختلفوا في وجوبه والأظهر وجوبه إذ لا ضرر فيه وجدواه متوقعة وعموم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تقتضي الوجوب بكل حال ونحن إنما نستثني عنه بطريق التحصيص ما إذا علم أنه لا فائدة فيه فأما إذا لم يكن يأس فينبغي أن لا يسقط الوجوب‏.‏

فإن قيل‏:‏ فالمكروه الذي تتوقع إصابته إن لم يكن متيقناً ولا معلوماً بغالب الظن ولكن كان مشكوكاً فيه أو كان غالب ظنه أنه لا يصاب بمكروه ولكن احتمل أن يصاب بمكروه فهذا الاحتمال هل يسقط الواجب حتى لا يجب إلا عند اليقين بأنه لا يصيبه مكروه أم يجب في كل حال إلا إذا غلب على ظنه أنه يصاب بمكروه قلنا‏:‏ إن غلب على الظن أنه يصاب لم يحب وإن غلب أنه لا يصاب وجب‏.‏

ومجرد التجويز لا يسقط الوجوب فإن ذلك ممكن في كل حسبة وإن شك فيه من غير رجحان فهذا محل النظر فيحتمل أن يقال الأصل الوجوب بحكم العمومات وإنما يسقط بمكروه والمكروه هو الذي يظن أو يعلم حتى يكون متوقعاً وهذا هو الأظهر‏.‏

ويحتمل أن يقال‏:‏ إنه إنما يجب عليه إذا علم أنه لا ضرر فيه عليه أو ظن أنه لا ضرر عليه والأول أصح نظراً إلى قضية العمومات الموجبة للأمر بالمعروف‏.‏

فإن قيل‏:‏ فالتوقع للمكروه يختلف بالجبن والجراءة فالجبان الضعيف القلب يرى البعيد قريباً حتى كأنه يشاهده ويرتاع منه والمتهور الشجاع يبعد وقوع المكروه به بحكم ما جبل عليه من حسن الأمل حتى إنه لا يصدق به إلا بعد وقوعه فعلى ماذا التعويل قلنا‏:‏ التعويل على اعتدال الطبع وسلامة العقل والمزاج فإن الجبن مرض وهو ضعف في القلب سببه قصور في القوة وتفريط والتهور إفراط في القوة وخروج عن الاعتدال بالزيادة وكلاهما نقصان وإنما الكمال في الاعتدال الذي يعبر عنه بالشجاعة‏.‏

وكل واحد من الجبن والتهور يصر تارة عن نقصان العقر‏.‏

وتارة عن خلل في المزاج بتفريط أو إفراط فإن من اعتدل مزاجه في صفة الجبن والجراءة فقد لا يتفطن لمدارك الشر فيكون سبب جراءته جهله وقد لا يتفطن لمدارك دفع الشر فيكون سبب جبنه جهله وقد يكون عالماً بحكم التجربة والممارسة بمداخل الشر ودوافعه ولكن يعمل الشر البعيد في تخذيله وتحليل قوته في الإقدام بسبب ضعف قلبه ما يفعله الشر القريب في حق الشجاع المعتدل الطبع‏.‏

فلا التفات إلى الطرفين‏.‏

وعلى الجبان أن يتكلف إزالة الجبن بإزالة علته وعلته جهل أو ضعف ويزول الجهل بالتجربة ويزول الضعف بممارسة الفعل المخفوف منه تكلفاً حتى يصير معتاداً إذ المبتدئ في المناظرة والوعظ مثلاً قد يجبن عنه طبعه لضعفه فإذا مارس واعتاد فارقه الضعف فإن صار ذلك ضرورياً غير قابل للزوال بحكم استيلاء الضعف على القلب فحكم ذلك الضعيف يتبع حاله فيعذر كما يعذر المريض في التقاعد عن بعض الواجبات ولذلك قد نقول على رأي‏:‏ لا يجب ركوب البحر لأجل حجة الإسلام على من يغلب عليه الجبن في ركوب البحر على من لا يعظم خوفه منه فكذلك الأمر في وجوب الحسبة‏.‏

فإن قيل‏:‏ فالمكروه المتوقع ما حده فإن الإنسان قد يكره كلمة وقد يكره ضربة وقد يكره طول لبان المحتسب عليه في حقه بالغيبة وما من شخص يؤمر بالمعروف إلا يتوقع منه نوع من الأذى وقد يكون منه أن يسعى به إلى سلطان أو يقدح فيه في مجلس يتضرر بقدحه فيه فما حج المكروه الذي يسقط الوجوب به قلنا‏:‏ هذا أيضاً فيه نظر غامض وصورته منتشرة ومجارية كثيرة ولكنا نجتهد في ضم نشره وحصر أقسامه‏.‏

فنقول‏:‏ المكروه نقيض المطلوب ومطالب الخلق في الدنيا ترجع إلى أربعة أمور‏:‏ أما في النفس فالعلم‏.‏

وأما في البدن فالصحة والسلامة‏.‏

وأما في المال فالثروة‏.‏

وأما في القلوب الناس فقيام الجاه فإذاً المطلوب العلم والصحة والثروة والجاه‏.‏

ومعنى الجاه ملك قلوب الناس كما أن معنى الثروة ملك الدراهم لآن قلوب الناس وسيلة إلى الأغراض كما أن ملك الدراهم وسيلة إلى بلوغ الأغراض وسيأتي تحقيق معنى الجاه وسبب ميل الطبع إليه في ربع المهلكات وكل واحدة من هذه الأربعة يطلبها الإنسان لنفسه ولأقاربه والمختصين به‏.‏

ويكره في هذه الأربعة أمران أحدهما‏:‏ زوال ما هو حاصل موجود‏.‏

والآخر امتناع ما هو منتظر مفقود أعني اندفاع ما يتوقع وجوده‏.‏

فلا ضرر إلا في فوات حاصل وزواله أو تعويق منتظر فإن المنتظر عبارة عن الممكن حصوله والممكن حصوله كأنه حاصل وفوات إمكانه كأنه فوات حصوله‏:‏ فرجع المكروه إلى قسمين أحدهما‏:‏ خوف امتناع المنتظر وهذا لا ينبغي أن يكون مرخصاً في ترك الأمر بالمعروف أصلاً‏.‏

ولنذكر مثاله في المطالب الأربعة أما العلم‏:‏ فمثاله تركه الحسبة على من يختص بأستاذه خوفاً من أن يقبح حاله عنده فيمتنع من تعليمه‏.‏

وأما الصحة‏:‏ فتركه الإنكار على الطبيب الذي يدخل عليه مثلاً وهو لابس حريراً خوفاً من أن يتأخر عنه فتمتنع بسببه صحته المنظرة‏.‏

وأما المال‏:‏ فتركه الحسبة على السلطان وأصحابه وعلى من يواسيه من ماله خيفة من أن يقطع إدراره في المستقبل ويترك مواساته‏.‏

وأما الجاه‏:‏ فتركه الحسبة على من يتوقع منه نصرة وجاهاً في المستقبل خيفة من أن لا يحصل له الجاه أو خيفة من أن يقبح حاله عند السلطان الذي يتوقع منه ولاية‏.‏

وهذا كله لا يسقط وجوب الحسبة لأن هذه زيادات امتنعت وتسمية امتناع حصول الزيادات ضراً مجاز‏.‏

وإنما الضرر الحقيقي فوات حاصل ولا يستثنى من هذا شيء إلا ما تدعو إليه الحاجة ويكون في فواته محذور يزيد على محذور السكوت على المنكر كان إذا كان محتاجاً إلى الطبيب لمرض ناجز والصحة منتظرة من معالجة الطبيب ويعلم أن في تأخره شدة الضنا به وطول المرض وقد يفضى إلى الموت‏.‏

وأعني بالعلم الظن الذي يجوز بمثله ترك استعمال الماء والعدول إلى التيمم فإذا انتهى إلى هذا الحد لم يبعد أن يرخص في ترك الحسبة‏.‏

وأما في العلم فمثل أن يكون جاهلاً بمهمات دينه ولم يجد إلا معلماً واحداً ولا قدرة له على الرحلة إلى غيره وعلم أن المحتسب عليه قادر على أن يسد عليه طريق الوصول إليه لكونه العالم مطيعاً له أو مستمعاً لقوله فإذاً الصبر على الجهل بمهمات الدين محذور والسكوت على المنكر محذور ولا يبعد أن يرجح أحدهما ويختلف ذلك بتفاحش المنكر وبشدة الحاجة إلى العلم لتعلقه بمهمات الدين‏.‏

وأما في المال فكمن يعجز عن الكسب والسؤال وليس هو قوى النفس في التوكل ولا منفق عليه سوى شخص واحد ولو احتسب عليه قطع رزقه وافتقر في تحصيله إلى طلب إدرار حرام أو مات جوعاً فهذا أيضاً إذا اشتد الأمر فيه لم يبعد أن يرخص له في السكوت‏.‏

وأما الجاه فهو أن يؤذيه شرير ولا يجد سبيلاً إلى دفع شره إلا بجاه يكتسبه من سلطان ولا يقدر على التوصل إليه إلا بواسطة شخص يلبس الحرير أو يشرب الخمر ولو احتسب عليه لم يكن واسطة ووسيلة له فيمتنع عليه حصول الجاه ويدوم بسببه أذى الشرير‏.‏

فهذه الأمور كلها إذا ظهرت وقويت لم يبعد استثناؤها ولكن الأمر فيها منوط باجتهاد المنسب حتى يستفتى فيها قلبه ويزن أحد المحذوين بالآخر ويرجح بنظر الدين لا بموجب الهوى والطبع فإن رجح بموجب الدين سمي سكوته مداراة وإن رجح بموجب الهوى سمى سكوته مكاهنة‏.‏

وهذا أمر باطن لا يطلع عليه إلا بنظر دقيق ولكن الناقد بصير فحق على كل متدين فيه أن يراقب قلبه ويعلم أن الله مطلع على باعثه وصارفه أنه الدين أو الهوى وستجد كل نفس ما عملت من سوء أو خير محضراً عند الله ولو في فلتة خاطر أو فلتة ناظر من غير ظلم وجور فما الله بظلام للعبيد‏.‏

وأما القسم الثاني‏:‏ وهو فوات الحاصل‏:‏ فهو مكروه ومعتبر في جواز السكوت في الأمور الأربعة إلا العلم فإن فواته غير مخوف إلا بتقصير منه وإلا فلا يقدر أحد على سلب العلم من غيره وإن قدر على سلب الصحة والسلامة والثروة والمال وهذا أحد أسباب شرف العلم فإنه يدوم في الدنيا ويدوم ثوابه في الآخرة فلا انقطاع له أبد الآباد‏.‏

وأما الصحة والسلامة ففواتهما بالضرب فكل من علم أنه يضرب ضرباً مؤلماً يتأذى به في الحسبة لم تلزمه الحسبة وإن كان يستحب له ذلك كما سبق وإذا فهم هذا في الإيلام بالضرب فهو في الجرح والقطع والقتل أظهر‏.‏

وأما الثروة فهو بأن يعلم أنه تنهب داره ويخرب بيته وتسلب ثيابه فهذا أيضاً يسقط عنه الوجوب ويبقى الاستحباب إذ لا بأس بأن يفدى دينه بدنياه ولكل واحد م الضرب والنهب حد في القلة لا يكترث به كالحبة في المال واللطمة الخفيف ألمها في الضرب وحد في الكثرة يتعين اعتباره ووسط يقع في محل الاشتباه والاجتهاد وعلى المتدين أن يجتهد في ذلك ويرجح جانب الدين ما أمكن‏.‏

وأما الجاه ففواته بأن يضرب ضرباً غير مؤلم أو بسبب على ملأ من الناس أو يطرح منديله في رقبته ويدار به درجات فالصواب أن يقسم إلى ما يعبر عنه بسقوط المروءة كالطواف به في البلد حاسراً حافياً فهذا يرخص له في السكوت لأن المروءة مأمور بحفظها في الشرع وهذا مؤلم للقلب ألماً يزيد على أمل ضربات متعددة وعلى فوات دريهمات قليلة فهذه درجة‏.‏

الثانية‏:‏ ما يعبر عنه بالجاه المحض وعلو الرتبة فإن الخروج في ثياب فاخرة تجمل وكذلك الركوب للخيول‏.‏

فلو علم أنه لو احتسب لكلف المشي في السوق في ثياب لا يعتاد هو مثلها‏.‏

أو كلف المشي راجلاً وعادته الركوب‏.‏

فهذا من جملة المزايا‏.‏

وليست المواظبة على حفظها محمودة‏.‏

وحفظ المروءة محمود فلا ينبغي أن يسقط وجوب الحسبة بمثل هذا القدر‏.‏

وفي معنى هذا ما لو خاف أن يتعرض له باللسان إما في حضرته بالتجهيل والتحميق والنسبة إلى الرياء والبهتان‏.‏

وأما في غيبته بأنواع الغيبة فهذا لا يسقط الوجوب إذ ليس فيه إلا زوال فضلات الجاه التي ليس إليها كبير حاجة‏.‏

ولو تركت الحسبة بلوم لائم أو باغتياب فاسق أو شتمة وتعنيفه أو سقوط المنزلة عن قلبه وقلب أمثاله لم يكن للحسبة وجوب أصلاً إذ لا تنفك الحسبة عنه إلا إذا كان المنكر هو الغيبة وعلم أنه لو أنكر لم يسكت عن المغتاب ولكن أضافه إليه وأدخله معه في الغيبة فتحرم هذه الحسبة لأنها سبب زيادة المعصية وإن علم أنه يترك تلك الغيبة ويقتصر على غيبته فلا تجب لعيه الحسبة لأن غيبته أيضاً معصية في حق المغتاب ولكن يستحب له ذلك ليفدى عرض المذكور بعرض نفسه على سبيل الإيثار‏.‏

وقد دلت العمومات على تأكد وجوب الحسبة وعظم الخطر في السكوت عنها ودرجات التجمل وطلب ثناء الخلق فكل ذلك لا خطر له‏.‏

وأما امتناعه لخوف شيء من هذه المكاره في حق أولاده وأقاربه فهو في حقه دونه لأن تأذيه بأمر نفسه أشد من تأذيه بأمر غيره ومن وجه الدين هو فوقه لأن له أن يسامح في حقوق نفسه وليس له المسامحة في حق غيره‏.‏

فإذاً ينبغي أن يمتنع فإنه إن كان ما يفوت من حقوقهم يفوت على طريق المعصية كالضرب والنهب فليس له هذه الحسبة لأنه دفع منكر يفضى إلى منكر وإن كان يفوت لا بطريق المعصية فهو إيذاء للمسلم أيضاً وليس له هذه الحسبة لأنه دفع منكر يفضى إلى منكر وإن كان يفوت لا بطريق المعصية فهو إذاء للمسلم أيضاً وليس له ذلك إلا برضاهم‏.‏

فإذا كان يؤدي ذلك إلى أذى قومه فليتركه وذلك كالزاهد الذي له أقارب أغنياء فإنه لا يخاف على ماله إن احتسب على السلطان ولكنه يقصد أقاربه انتقاماً منه بواسطته فإذا كان يتعدى الأذى من حسبته إلى أقاربه وجيرانه فليتركها فإن إيذاء المسلمين محذور كما أن السكوت على المنكر محذور‏.‏

نعم إن كان لا ينالهم أذى في مال أو نفس ولكن ينالهم الأذى بالشتم والسب فهذا فيه نظر ويختلف الأمر فيه بدرجات المنكرات في تفاحشها ودرجات الكلام المحذور في نكايته في القلب وقدحه في العرض‏.‏

فإن قيل‏:‏ فلو قصد الإنسان قطع طرف في نفسه وكان لا يمتنع عنه إلا بقتال ربما يؤدي إلى قتله فهل يقاتل عليه فإن قلتم‏:‏ يقاتل فهو محال لأنه إهلاك نفس خوفاً من إهلاك طرف وفي إهلاك النفس إهلاك الطرف أيضاً قلنا‏:‏ يمنعه عنه ويقاتله إذ ليس غرضنا حفظ نفسه وطرفه بل الغرض حسن سبيل المنكر والمعصية وقتله في الحسبة ليس بمعصية وقطع طرف نفسه معصية‏.‏

وذلك كدفع الصائل على مال مسلم بما يأتي على قتله فإنه جائز لا على معنى أنا نفدى درهماً من مال مسلم بروح مسلم فإن ذلك محال ولكن قصده لأخذ مال المسلمين معصية وقتله في الدفع عن المعصية ليس بمعصية وإنما المقصود دفع المعاصي‏.‏

فإن قيل‏:‏ فلو علمنا أنه لو خلا بنفسه لقطع طرف نفسه فينبغي أن نقتله في الحال حسماً لباب المعصية قلنا‏:‏ ذلك لا يعلم يقيناً ولا يجوز سفك دمه بتوهم معصية ولكنا إذا رأيناه في حال مباشرة القطع دفعناه فإن قاتلنا قاتلناه ولم نبال بما يأتي على روحه‏.‏

فإذا المعصية لها ثلاثة أحوال‏:‏ إحداها‏:‏ أن تكون متصرم فالعقوبة على ما تصرم منها حد أو تعزيز وهو إلى الولاة لا إلى الآحاد‏.‏

الثانية‏:‏ أن تكون المعصية راهنة صاحبها مباشر لها كلبسه الحرير وإمساكه العود والخمر فإبطال هذه المعصية واجب بكل ما يمكن ما لم تؤد إلى معصية أفحش منها أو مثلها وذلك يثبت للآحاد والرعية‏.‏

الثالثة‏:‏ أن يكون المنكر متوقعاً كالذي يسعد بكنس المجلس وتزيينه وجمع الرياحين لشرب الخمر وبعده لم يحضر الخمر فهذا مشكوك فيه إذ ربما يعوق عنه عائق فلا يثبت للآحاد سلطنة على العازم على الشرب إلا بطريق الوعظ والنصح فأما بالتعنيف والضرب فلا يجوز للآحاد ولا للسلطان إلا إذا كانت تلك المعصية علمت منه بالعادة المستمرة وقد أقدم على السبب المؤدي إليها ولم يبق لحصول المعصية إلا إذا كانت تلك المعصية علمت منه بالعادة المستمرة وقد أقدم على السبب المؤدي إليها ولم يبق لحصول المعصية إلا ما ليس له فيه إلا الانتظار وذلك كوقوف الأحداث على أبواب حمامات النساء للنظر إليهن عند الدخول والخروج فإنهم وإن لم يضيقوا الطريق لسعته فتجوز الحسبة عليهم بإقامتهم من الموضع ومنعهم عن الوقوف بالتعنيف والضرب وكان تحقيق هذا إذا بحث عنه يرجع إلى أن هذا الوقوف في نفسه معصية وإن كان مقصد العاصي وراءه كما أن الخلوة بالأجنبية في نفسها معصية لأنها مظنة وقوع المعصية‏.‏

وتحصيل مظنة المعصية معصية ونعني بالمظنة ما يتعرض الإنسان لوقوع المعصية غالباً بحيث لا يقدر على الإنكفاف عنها فإذاً هو على التحقيق حسبة على معصية راهنة لا على معصية منتظرة‏.‏

الركن الثاني للحسبة ما فيه الحسبة وهو كل منكر موجود في الحال ظاهر للمحتسب بغير تجسس معلوم كونه منكراً بغير اجتهاد فهذه أربعة شروط فلنحث عنها‏:‏ الأول‏:‏ كونه منكراً ونعني به أن يكون محذور الوقوع في الشرع وعدلنا عن لفظ المعصية إلى هذا لان المنكر أعم من المعصية إذ من رأى صبياً أو مجنوناً يشرب الخمر فعله أن يريق خمره ويمنعه

وكذا إن رأى مجنوناً يزني بمجنونه أو بهيمة فعليه أن يمنعه منه‏.‏

وليس ذلك لتفاحش صورة الفعل وظهوره بين الناس بل لو صادف هذا المنكر في خلوة لوجب المنع منه وهذا لا يسمى معصية في حق المجنون إذ معصية لا عاصي بها محال فلفظ المنكر أدل عليه وأعم من لفظ المعصية وقد أدرجنا في عموم هذا الصغيرة والكبيرة فلا تختص الحسبة بالكبائر بل كشف العورة في الحمام والخلوة بالأجنبية وإتباع النظر للنسوة الأجنبيات كل ذلك من الصغائر ويجب النهي عنها وفي الفرق بين الصغيرة والكبيرة نظر سيأتي في كتاب التوبة‏.‏

الشرط الثاني‏:‏ أن يكون موجوداً في الحال وهو احتراز أيضاً عن الحسبة على من فرغ من شرب الخمر فإن ذلك ليس إلى الآحاد وقد انقرض المنكر واحتراز عما سيوجد في ثاني الحال كمن يعلم بقرينه حال أنه عازم على الشرب في ليلته فلا حسبة عليه إلا بالوعظ وإن أنكر عزمه عليه لم يجز وعظه أيضاً فإن فيه إساءة ظن بالمسلم وربما صدق في قوله ربما لا يقدم على ما عزم عليه لعائق‏.‏

وليتنبه للدقيقة التي ذكرناها وهو أن الخلوة بالأجنبية معصية ناجزة وكذا الوقوف على باب حمام النساء وما يجري مجراه‏.‏

الشرط الثالث‏:‏ أن يكون المنكر ظاهراً للمحتسب بغير تجسس‏.‏

فكل من ستر معصية في داره وأغلق بابه لا يجوز أن يتجسس عليه وقد نهى الله تعالى عنه‏.‏

وقصة عمر وعبد الرحمن بن عوف فيه مشهورة‏.‏

وقد أوردناها في كتاب آداب الصحبة وكذلك ما روي أن عمر رضي الله عنه تسلق دار رجل فرآه على حالة مكروهة فأنكر عليه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن كنت أنا قد عصيت الله من وجه واحد فأنت قد عصيته من ثلاثة أوجه‏.‏

فقال وما هي فقال قد قال تعالى ‏"‏ ولا تجسسوا ‏"‏ وقد تجسست‏.‏

وقال تعالى ‏"‏ وأتوا البيوت من أبوابها ‏"‏ وقد تسورت من السطح وقال‏:‏ ‏"‏ لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ‏"‏ وما سلمت‏.‏

فتركه عمر وشرط عليه التوبة‏.‏

ولذلك شاور عمر الصحابة رضي الله عنهم وهو على المنبر وسألهم عن الإمام إذا شاهد بنفسه منكراً فهل له إقامة الحد فيه فأشار علي رضي الله عنه بأن ذلك منوط بعدلين فلا يكفي فيه واحد‏.‏

وقد أوردنا هذه الأخبار في بيان حق المسلم من كتاب آداب الصحبة فلا نعيدها‏.‏

فإن قلت‏:‏ فما حد الظهور والاستتار فاعلم أن من أغلق باب داره وتستر بحيطانه فلا يجوز الدخول عليه بغير إذنه لتعرف المعصية إلا أن يظهر في الدار ظهوراً يعرفه من هو خارج الدار كأصوات المزامير والأوتار إذا ارتفعت بحيث جاوز ذلك حيطان الدار‏.‏

فمن سمع ذلك فله دخول الدار وكسر الملاهي وكذا إذا ارتفعت أصوات السكارى بالكلمات المألوفة بينهم بحيث يسمعها أهل الشوارع فهذا إظهار موجب للحسبة‏.‏

فإذن إنما يدرك مع تخلل الحيطان صوت و رائحة‏.‏

فإذا فاحت روائح الخمر فإن احتمل ن يكون ذلك من الخمور المحترمة فلا يجوز قصدها بالإراقة‏.‏

وإن علم بقرينة الحال أنها فاحت لتعاطيهم الشرب فهذا محتمل‏.‏

والظاهر جواز الحسبة‏.‏

وقد تستر قارورة الخمر في الكم وتحت الذيل وكذلك الملاهي فإذا رؤى فاسق وتحت ذيله شيء لم يجز أن يكشف عنه ما لم يظهر بعلامة خاصة‏.‏

فإن فسقه لا يدل على أن الذي معه خمر‏.‏

إذ الفاسق محتاج أيضاً إلى الخل وغيره‏.‏

فلا يجوز أن يستدل بإخفائه وأنه لو كان حلالاً لما أخفاه لأن الأغراض تفيد الظن والظن كالعلم في أمثال هذه الأمور‏.‏

و كذلك العود ريما يعرف بشكله إذا كان الثوب السائر له رقيقاً‏.‏

فدلالة الشكل كدلالة الرائحة الصوت وما ظهرت دلالته فهو غير مستور بل هو مكشوف وقد أمرنا بأن نستر ما ستر الله وننكر على من أبدى لنا صفحته‏.‏

والإبداء له درجات فتارة يبدو لنا بحاسة السمع‏.‏

وتارة بحاسة الشم‏.‏

وتارة بحاسة البصر‏.‏

وتارة بحاسة اللمس‏.‏

ولا يمكن أن يخصص ذلك بحاسة البصر بل المراد العلم‏.‏

وهذه الحواس أيضاً تفيد العلم‏.‏

فإذن إنما يجوز أن يكسر ما تحت الثوب إذا علم أنه خمر‏.‏

وليس له أن يقول‏:‏ أرني لأعلم ما فيه‏.‏

هذا تجسس‏.‏

ومعنى التجسس طلب الأمارات المعرفة فالأمارة المعرفة إن حصلت وأورثت المعرفة جاز العمل بمقتضاها فأما طلب الأمارة المعرفة فلا رخصة فيه أصلاً‏.‏

الشرط الرابع‏:‏ أن يكون كونه منكر معلوماً بغير اجتهاد فكل ما هو في محل الاجتهاد فلا حسبة‏.‏

فليس للحنفي أن ينكر على الشافعي أكله الضب والضبع ومتروك التسمية‏.‏

ولا للشافعي أن ينكر على الحنفي شربه النبيذ الذي ليس بمسكر وتناوله ميراث ذوي الأرحام وجلوسه في دار أخذها بشفعة الجوار إلى غير ذلك من مجاري الاجتهاد نعم لو رأى الشافعي شافعياً يشرب النبيذ وينكح بلا ولي ويطأ زوجته فهذا في محل النظر والأظهر أن له الحسبة والإنكار إذ لم يذهب أحد من المحصلين إلى أن المجتهد يجوز له أن يعمل بموجب اجتهاد غيره‏.‏

ولا الذي أدى اجتهاده في التقليد إلى شخص رآه أفضل العلماء أن له أن يأخذ بمذهب غيره فينتقد من المذاهب أطيبها عنده بل على كل مقلد إتباع مقلده في كل تفصيل فإذن مخالفته للمقلد متفق على كونه منكراً بين المحصلين وهو عاص بالمخالفة إلا أنه يلزم من هذا أمر أغمض منه وهو أنه يجوز للحنفي أن يعترض على الشافعي إذا نكح بغير ولي بأن يقول له‏:‏ الفعل في نفسه حق ولكن لا في حقك وأنت مبطل بالإقدام عليه مع اعتقادك أن الصواب مذهب الشافعي ومخالفة ما هو صواب عندك معصية في حقك وإن كانت صواباً عند الله‏.‏

وكذلك الشافعي يحتسب على الحنفي إذا شاركه في أكل الضب ومتروك التسمية وغيره ويقول له‏:‏ إما أن تعتقد أن الشافعي أولى بالإتباع ثم تقدم عليه أو لا تعتقد ذلك فلا تقدم عليه لأنه على خلاف معتقدك‏.‏

ثم ينجر هذا إلى أمر آخر من المحسوسات وأن يجامع الأصم مثلاً امرأة على قصد الزنا وعلم المحتسب أن هذه امرأته زوجه أبوه إياها في صغره‏.‏

ولكنه ليس يدري وعجز عن تعريفه ذلك لصممه أو لكونه غير عارف بلغته فهو في الإقدام مع اعتقاده أنها أجنبية عاص ومعاقب عليه في الدار الآخرة‏.‏

فينبغي أن يمنعها عنه مع أنها زوجته وهو بعيد من حيث إنه حلال في علم الله قريب من حيث إنه حرام عليه بحكم غلطه وجهله‏.‏

ولا شك في أنه لو علق طلاق زوجته على صفة في قلب المحتسب مثلاً من مشيئة أو غضب أو غيره وقد وجدت الصفة في قلبه وعجز عن تعريف الزوجين ذلك ولكن علم وقوع الطلاق في الباطن فإذا رآه يجامعها فعليه المنع أعني باللسان لأن ذلك زنا إلا أن الزاني غير عالم به والمحتسب علام بأنها طلقت منه ثلاثاً

وكونهما غير عاصين لجهلهما بوجود الصفة لا يخرج الفعل عن كونه منكراً ولا يتقاعد ذلك عن زنا المجنون وقد بينا أنه يمنع منه‏.‏

فإذا كان يمنع مما هو منكر عند الله وإن لم يكن منكراً عند الفاعل لجهله لا يمنع منه وهذا هو الأظهر والعلم عند الله‏.‏

فتحصل من هذا أن الحنفي لا يعترض على الشافعي في النكاح بلا ولي وأن الشافعي يعترض على الشافعي فيه لكون المعترض عليه منكراً باتفاق المحتسب والمحتسب عليه‏.‏

وهذه مسائل فقهية دقيقة والاحتمالات فيها متعارضة وإنما أفتينا فيها بحسب ما ترجح عندنا في الحال‏.‏

ولسنا نقطع بخطأ ترجيح المخالف فيها إن رأى أنه لا يجري الاحتساب إلا في معلوم على القطع وقد ذهب إليه ذاهبون وقالوا‏:‏ لا حسبة إلا في مثل الخمر والخنزير وما يقطع بكونه حراماً ولكن الأشبه عندنا أن الاجتهاد يؤثر في حق المجتهد إذ يبعد غاية البعد أن يجتهد في القبلة ويعترف بظهور القبلة عنده في جهة بالدلالات الظنية ثم يستدبرها ولا يمنع منه لأجل ظن غيره لأن الإستدبار هو الصواب‏.‏

ورأى من يرى أنه يجوز لكل مقلد أن يختار من المذاهب ما أراد غير معتد به ولعله لا يصح ذهاب ذاهب إليه أصلاً فهذا مذهب لا يثبت وإن ثبت فلا يعتد به‏.‏

فإن قلت‏:‏ إذا كان لا يعترض على الحنفي في النكاح بلا ولي لأنه يرى أنه حق فينبغي أن لا يعترض على المعتزلي في قوله‏:‏ إن الله لا يرى وقوله‏:‏ وإن الخير من الله والشر ليس من الله وقوله‏:‏ كلام الله مخلوق ولا على الحشوى في قوله‏:‏ إن الله تعالى جسم وله صورة وإنه مستقر على العرش بل لا ينبغي أن يعترض على الفلسفي في قوله‏:‏ الأجساد لا تبعث وإنما تبعث النفوس لأن هؤلاء أيضاً أدى اجتهادهم إلى ما قالوه وهم يظنون أ ذلك هو الحق‏.‏

فإن قلت‏:‏ بطلان مذهب هؤلاء ظاهر فبطلان مذهب من يخالف نص الحديث الصحيح أيضاً ظاهر وكما ثبت بظواهر النصوص أن الله تعالى يرى والمعتزلي ينكرها بالتأويل فكذلك ثبت بظواهر النصوص مسائل خالف فيها الحنفي كمسألة النكاح بلا ولي ومسألة شفعة الجوار ونظائرهما فاعلم أن المسائل نقسم إلى ما يتصور أن يقال فيه‏:‏ كل مجتهد مصيب‏.‏

وهي أحكام الأفعال في الحل والحرمة وذلك هو الذي لا يتعرض على المجتهدين فيه إذ لم يعلم خطؤهم قطعاً بل ظناً وإلى ما لا يتصور أن يكون المصيب فيه إلا واحد كمسالة الرؤية والقدر وقدم الكلام ونفي الصورة والجسمية والاستقرار عن الله تعالى فهذا مما يعلم خطأ المخطئ فيه قطعاً ولا يبقى لخطئه الذي هو جهل محض وجه‏.‏

فإذن البدع كلها ينبغي أن تحسم أبوابها وتنكر على المبتدعين بدعهم وإن اعتقدوا أنها الحق كما يرد على اليهود والنصارى كفرهم وإن كانوا يعتقدون أن ذلك حق لأن خطأهم معلوم على القطع بخلاف الخط - أ في مظان الاجتهاد‏.‏

فإن قلت‏:‏ فمهما اعترضت على القدري في قوله‏:‏ الشر ليس من الله اعترض عليك القدري

أيضاً في قولك‏:‏ الشر من الله وكذلك في قولك‏:‏ إن الله يرى وفي سائر المسائل‏.‏

إذ المبتدع محق عند نفسه والمحق مبتدع عند المبتدع وكل يعي أنه محق ونكير كونه مبتدعاً‏.‏

فكيف يتم الاحتساب فاعلم أنا لأجل هذا التعارض نقول‏:‏ ينظر إلى البلدة التي فيها أظهرت تلك البدعة فإن كانت البدعة غريبة والناس كلهم على السنة فلهم الحسبة عليه بغير إذن السلطان وإن انقسم

أهل البلد إلى أهل البدعة وأهل السنة وكان في الاعتراض تحريك فتنة بالمقاتلة فليس للآحاد الحسبة في المذاهب إلا بنصب السلطان‏.‏

فإذا رأى السلطان الرأي الحق ونصره وأذن لواحد أن يزجر المبتدعة عن إظهار البدعة كان له ذلك وليس لغيره‏.‏

فإن ما يكون بإذن السلطان لا يتقابل وما يكون من جهة المبتدعة عن إظهار البدعة كان له ذلك وليس لغيره‏.‏

فإن ما يكون بإذن السلطان لتا يتقابل وما يكون من جهة الآحاد فيتقابل الأمر فيه‏.‏

وعلى الجملة فالحسبة في البدعة أهم من الحسبة في كل المنكرات ولكن ينبغي أن يراعى فيها هذا التفصيل الذي ذكرناه كيلا يتقابل الأمر ولا ينجو إلى تحريك الفتنة‏.‏

بل لو أذن السلطان مطلقاً في منع كل من يصرح بأن القرآن مخلوق أو أن الله لا يرى أو أنه مستقر على العرش مماس له أو غير ذلك من البدع لتسلط الآحاد على المنع منه ولم يتقابل الأمر فيه وإنما يتقابل عند عدم إذن السلطان فقط‏.‏

الركن الثالث المحتسب عليه وشرطه أ يكون بصفة يصير الفعل الممنوع منه في حقه منكراً وأقل ما يكفي في ذلك أن يكون إنساناً ولا يشترط كونه مكلفاً إذ بينا أن الصبي لو شرب الخمر منع منه واحتسب عليه وإن كان قبل البلوغ ولا يشترط كونه مميزاً إذ بينا أن المجنون لو كان يزني بمجنونة أو يأتي بهيمة منعه منه‏.‏

نعم من الأفعال ما لا يكون منكراً في حق المجنون كترك الصلاة والصوم وغيره‏.‏

ولكنا لسنا نلتفت إلى اختلاف التفاصيل فإن ذلك أيضاً مما يختلف فيه المقيم والمسافر والمريض والصحيح‏.‏

وغرضنا الإشارة إلى الصفة التي بها يتهيأ توجه أصل الإنكار عليه لا ما بها يتهيأ للتفاصيل‏.‏

فإن قلت‏:‏ فاكتف بكونه حيواناً ولا تشترط كونه إنساناً فإن البهيمة لو كانت تفسد زرعاً لإنسان لكنا تمنعها منه كما تمنع المجنون من الزنا وإتيان البهيمة فاعلم أن تسمية ذلك حسبة لا وجه لها إذا الحسبة عبارة عن المنع عن منكر لحق الله صيانة للمنوع عن مقارفة المنكر ومنع المجنون عن الزنا وإتيان البهيمة لحق الله وكذا منع الصبي عن شرب الخمر‏.‏

والإنسان إذا أتلف زرع غيره منع منه لحقين أحدهما‏:‏ حق الله تعالى فإن فعله معصية والثاني‏:‏ حق المتلف عليه فهما علتان تنفصل إحداهما عن الأخرى‏.‏

فلو قطع تطرف غيره بإذنه فقد وجدت المعصية وسقط حق المجيئ عليه بإذنه فتثبت الحسبة والمنع بإحدى العلتين‏.‏

والبهيمة إذا أتلفت فقد عدمت المعصية ولكن يثبت المنع بإحدى العلتين‏.‏

ولكن فيه دقيقة وهو أنا لسنا نقصد بإخراج البهيمة منع البهيمة بل حفظ مال المسلم إذ البهيمة لو أكلت ميتة أو شربت من إناء فيه خمر أو ماء مشوب بخمر لم نمنعها منه بل يجوز إطعام كلاب الصيد الجيف والميتات ولكن مال المسلم إذا تعرض للضياع وقدرنا على حفظه بغير تعب وجب ذلك علينا حفظاً للمال بل لو وقعت جرة لإنسان من علو وتحتها قارورة لغيره فتدفع الجرة لحفظ القارورة لا لمن ع الجرة من السقوط‏.‏

فإنا لا نقصد منع الجرة وحراستها من أن تصير كاسرة للقارورة ونمنع المجنون من الزنا وإتيان البهيمة وشر الخمر وكذا الصبي لا صيانة للبهيمة المأتية أو الخمر المشروب‏:‏ بل صيانة للمجنون عن شرب الخمر وتنزيهاً له من حيث إنه إنسان محترم‏.‏

فهذه لطائف دقيقة لا يتفطن لها

إلا المحققون فلا ينبغي أن يغفل عنها ثم فيما يجب تنزيه الصبي والمجنون عنه نظر إذ قد يتردد في منهما من لبس الحرير وغير ذلك‏.‏

وسنتعرض لما نشير إليه في الباب الثالث‏.‏

فإن قلت‏:‏ فكل من رأى بهائم قد استرسلت في زرع إنسان فهل يجب عليه إخراجها وكل من رأى مالاً لمسلم أشرف على الضياع هل يجب عليه حفظه فإن قلتم‏:‏ إن ذلك واجب فهذا تكليف شطط يؤدي إلى أن يصير الإنسان مسخراً لغيره طول عمره وإن قلتم لا يجب فلم يحب الاحتساب على من يغصب مال غيره وليس له سبب سوى مراعاة مال الغير فنقول‏:‏ هذا بحث دقيق غامض‏.‏

والقول الوجيز فيه أن نقول‏:‏ مهما قدر على حفظه من الضياع من غير أن يناله تعب في بدنه أو خسران في ماله أو نقصان جاهه وجب عليه ذلك فذلك القدر واجب في حقوق المسلم بل هو أقل درجات الحقوق والأدلة الموجبة لحقوق المسلمين كثيرة وهذا أقل درجاتها وهو أولى بالإيجاب من رد السلام فإن الأذى في هذا أكثر من الأذى في ترك رد السلام بل لا خلاف في أن مال الإنسان إذا كان يضيع بظلم ظالم وكان عند الشهادة لو تكلم بها لرجع الق إليه وجب عليه ذلك وعصى بكتمان الشهادة ففي معنى ترك الشهادة ترك كل دفع لا ضرر على الدافع فيه فأما إن كان عليه تعب أو ضرر في مال أو جاه لم يلزمه السعي في ذلك ولكن إذا كان لا يتعب بتنبيه صاحب الزرع من نوم أو بإعلامه يلزمه فإهمال تعريفه وتنبيهه السعي في ذلك ولكن إذا كان لا يتعب بتنبيه صاحب الزرع من نوم أو بإعلامه يلزمه فإهمال تعريفه وتنبيهه كإهماله تعريف القاضي بالشهادة وذلك لا رخصة فيه ولا يمكن أن يراعي فيه الأقل والأكثر حتى يقال إن كان لا يضيع من منفعته في مدة اشتغاله بإخراج البهائم إلا قدر درهم مثلاً وصاحب الزرع يفوته مال كثير فيترجح جانبه لأن الدرهم الذي له هو يستحق حفظه كما يستحق صاحب الألف حفظ الألف ولا سبيل للمصير إلا ذلك فأما إذا كان فوات

المال بطريق هو معصية كالغصب أو قتل عبد مملوك للغير فهذا يجب المنع منه وإن كان فيه تعب ما لأن المقصود حق الشرع والغرض دفع المعصية وعلى الإنسان أن يتعب نفسه في دفع المعاصي كما عليه أن يتعب نفسه في ترك المعاصي‏.‏

والمعاصي كلها في تركها تعب وإنما الطاعة كلها ترجع إلى مخالفة النفس وهي غاية التعب‏.‏

ثم لا يلزمه احتمال كل ضرر بل التفصيل فيه وقد اختلف الفقهاء في مسئلتين تقربان من غرضنا إحداهما‏:‏ أن الالتقاط هل هو واجب واللقطة ضائعة والملتقط مانع من الضياع وساع في الحفظ والحق فيه عندنا أن يفصل ويقال‏:‏ إن كانت اللقطة في موضع لو تركها فيه لم تضع بل يلتقطها من يعرفها أو تترك كما لو كان في مسجد أو رباط يتعين من يدخله وكلهم أمناء فلا يلزمه الالتقاط وإن كانت في مضيعة نظر فإن كان عليه تعب في حفظها كما لو كنت بهيمة وتحتاج إلى علف واصطبل فلا يلزمه ذلك لأنه إنما يجب الالتقاط لحق المالك‏.‏

وحقه بسبب كونه إنساناً محترماً والملتقط أيضاً إنسان وله حق في أن لا يتعب لأجل غيره كما لا يتعب غيره لأجله‏.‏

فإن كانت ذهباً أو ثوباً أو شيئاً لا ضرر عليه فيه إلا مجرد تعب التعريف فهذا ينبغي أن يكون في محل الوجهين‏.‏

فقائل يقول‏:‏ التعريف والقيام بشرطه فيه تعب فلا سبيل إلى إلزامه ذلك إلا أن يتبرع فيلتزم طبقاً للثواب‏.‏

وقائل يقول‏:‏ إن هذا القدر من التعب مستصغر بالإضافة إلى مراعاة حقوق المسلمين فينزل ها منزلة تعب الشاهد في حضور مجلس الحكم فإنه لا يلزمه السفر إلى بلدة أخرى إلا أن يتبرع به فإذا كان مجلس القاضي في جواره لزمه الحضور وكان التعب بهذه الخطوات لا يعد تعباً في غرض إقامة الشهادة وأداء الأمانة وإن كان في الطرف الآخر م البلد وأحوج إلى الحضور في الهاجرة وشدة الحر فهذا قد يقع في محل الاجتهاد والنظر فإن الضرر الذي ينال الساعي في حفظ حق الغير له طرف في القلة لا يشك في أنه لا يبالي به وطرف في الكثرة لا يشك في أنه لا يلزم احتماله

ووسط يتجاذبه الطرفان ويكون أبداً في محل الشبهة والنظر وهي من الشبهات المزمنة التي ليس في مقدور البشر إزالتها إذ لا علة تفرق بين أجزائها المتقاربة ولكن المتقي ينظر فيها لنفسه ويدع ما يريبه إلى ما لا يريبه فهذا نهاية الكشف عن هذا الأصل‏.‏

الركن الرابع نفس الاحتساب وله درجات وآداب‏:‏ أما الدرجات فأولها التعرف ثم التعريف ثم النهي ثم الوعظ والنصح ثم السب والتعنيف ثم التغيير باليد ثم التهديد بالضرب ثم إيقاع الضرب وتحقيقه ثم شهر السلاح ثم الاستظهار فيه بالأعوان وجمع الجنود‏.‏

أما الدرجة الأولى‏:‏ وهي التعرف ونعني طلب المعرفة بجريان المنكر وذلك منهى عنه وهو التجسس الذي ذكرناه فلا ينبغي أن يسترق السمع على دار غيره ليسمع صوت الأوتار ولا أن

يستنشق ليدرك رائحة الخمر ولا أن يمس ما في ثوبه ليعرف شكل المزمار ولا أن يستخبر من جيرانه ليخبروه بما يجري في داره‏.‏

نعم لو أخبره ععدلان ابتداء من غير استخبار بأن فلاناً يشرب الخمر في داره أو بأن في داره خمراً أعده للشرب فله إذ ذاك أن يدخل داره ولا يلزم الاستئذان ويكون تخطى ملكه بالدخول للتوصل إلى دفع المنكر ككسر رأسه بالضرب للمنع مهما احتاج إليه‏.‏

وإن أخبره عدلان أو عدل واحد وبالجملة كل من تقبل روايته لا شهادته ففي جواز الهجوم على داره بقولهم فيه نظر واحتمال والأولى أن يمتنع لأن له حقاً في أن لا يتخطى داره بغير إذنه ولا يسقط حق المسلم عما ثبت عليه حقه إلا بشاهدين فهذا أولى ما يجعل مرداً فيه‏.‏

وقد قيل إنه كان نقش خاتم لقمان‏:‏ الستر لما عاينت أحسن من إذاعة ما ظننت‏.‏

الدرجة الثانية‏:‏ التعريف فإن المنكر قد يقدم عليه المقدم بجهله وإذا عرف أنه منكر تركه كالسوادي يصلي ولا يحسن الركوع والسجود فيعلم أن ذلك لجهله بأن هذه ليست بصلاة ولو رضي بأن لا يكون مصلياً لترك أصل الصلاة فيجب تعريفه باللطف من غير عنف‏:‏ وذلك لأن ضمن التعريف نسبة إلى الجهل والحمق والتجهيل إيذاء وقلما يرضى الإنسان بأن ينسب إلى الجهل بالأمور لا سيما بالشرع‏.‏

ولذلك ترى الذي يغلب عليه الغضب كيف يغضب إذا نبه على الخطأ والجهل وكيف يجتهد في مجاحدة الحق بعد معرفته خيفة من أن تنكشف عورة جهله والطباع أحرص على ستر عورة الجهل منها على ستر العورة الحقيقية لأن الجهل قبح في صورة النفس وسواد

في وجهه وصاحبه ملوم عليه وقبح السوأتين يرجع إلى صورة البدن والنفس أشرف من البدن

وقبحها أشد من قبح البدن‏.‏

ثم هو غير ملوم عليه لأنه خلقة لم يدخل تحت اختياره حصوله ولا في اختياره إزالته وتحسينه‏.‏

والجهل قبح يمكن إزالته وتبديله بحسن العلم فلذلك يعظم تألم الإنسان بظهور جهله ويعظم ابتهاجه في نفسه بعلمه ثم لذته عند ظهور جمال علمه لغيره‏.‏

وإذا كان التعريف كشفاً للعورة مؤذياً للقلب فلا بد وأن يعالج دفع أذاه بلطف الرفق فنقول له‏:‏ إن الإنسان لا يولد عالماً ولقد كنا أيضاً جاهلين بأمور الصلاة فعلمنا العلماء ولعل قربتك خالية عن أهل العلم أو عالمها مقصر في شرح الصلاة وإيضاحها إنما شرط الصلاة الطمأنينة في الركوع والسجود‏.‏

وهكذا يتلطف به ليحصل التعريف من غير إيذاء فإن إيذاء المسلم حرام محذور كما أن تقريره على المنكر محذور وليس من العقلاء من يغسل الدم بالدم أو بالبول ومن اجتنب محذور السكوت على المنكر واستبدل عنه محذور الإيذاء للمسلم مع الاستغناء عنه فقد غسل الدم بالبول علي بالتحقيق‏.‏

وأما إذا وقفت على خطأ في غير أمر الدين فلا ينبغي أن ترده عليه فإنه يستفيد منك علماً ويصير لك عدواً إلا إذا علمت أنه يغتنم العلم وذلك عزيز جداً‏.‏

الدرجة الثالثة‏:‏ النهي بالوعظ والنصح والتخويف بالله تعالى وذلك فيمن يقدم على الأمر وهو

عالم بكونه منكراً أو فيمن أصر عليه بعد أن عرف كونه منكراً كالذي يواظب على الشرب أو على الظلم أو على اغتياب المسلمين أو ما يجري مجراه فينبغي أن يوعظ ويخوف بالله تعالى وتورد عليه الأخبار الواردة بالوعيد في ذلك وتحكى له سير السلف وعبادة المتقين وكل ذلك بشفقة ولطف من غير عنف وغضب بل ينظر إليه نظر المترحم عليه ويرى إقدامه على المعصية مصيبة على نفسه إذ المسلمون كنفس واحدة وههنا آفة عظيمة ينبغي أن يتوقاها فإنها مهلكة وهي أن العالم يرى عند التعريف عز نفسه بالعلم وذل غيره بالجهل فربما يقصد بالتعريف الإدلال وإظهار التمييز بشرف العلم وإذلال صاحبه بالنسبة إلى خسة الجهل‏.‏

فإن كان الباعث هذا فهذا المنكر أقبح في نفسه من المنكر الذي يعترض عليه ومثال هذا المحتسب مثال من يخلص غيره من النار بإحراق نفسه وهو غاية في الجهل‏.‏

وهذه مذلة عظيمة وغائلة هائلة وغرور للشيطان يتدلى بحبله كل إنسان إلا من عرفه الله عيوب نفسه وفتح بصيرته بنور هدايته فإن في الاحتكام على الغير لذة للنفس عظيمة من وجهين أحدهما‏:‏ من جهة دالة العلم والآخر‏:‏ من جهة دالة الاحتكام والسلطنة‏.‏

وذلك يرجع إلى الرياء وطلب الجاه وهو الشهوة الخفية الداعية إلى الشرك أو باحتساب غيره أحب إليه من امتناعه باحتسابه‏.‏

فإن كانت الحسبة شاقة عليه ثقيلة على نفسه وهو يود أن يكفى بغيره فليحتسب فإن باعثه هو الدين وإن كان اتعاظ ذلك العاصي بوعظه وانزجاره بزجره أحب إليه من اتعاظه أولاً على نفسه‏.‏

وعند هذا يقال له ما قيل لعيسى عليه السلام‏:‏ يا ابن مريم عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي مني‏.‏

وقيل لداود الطائي رحمه الله‏:‏ أرأيت رجلاً دخل على هؤلاء الأمراء فأمخرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر فقال أخاف عليه السوط قال‏:‏ إنه يقوى عليه قال‏:‏ أخاف عليه السيف قال‏:‏ إنه يقوى عليه قال‏:‏ أخاف عليه الداء الدفين وهو العجب‏.‏

الدرجة الرابعة‏:‏ السب والتعنيف بالقول الغليظ الخشن وذلك يعدل إليه عند العجز عن المنع باللطف وظهور مبادئ الإصرار والاستهزاء بالوعظ والنصح وذلك مثل قول إبراهيم عليه السلام ‏"‏ أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون ‏"‏ ولسنا نعني بالسب والفحش بما فقيه نسبة إلى الزنا ومقدماته ولا الكذب بل أن يخاطبه بما فيه مما لا يعد من جملة الفحش كقوله‏:‏ يا فاسق يا أحمق يا جاهل ألا تخاف الله وكقوله‏:‏ يا سوادى يا غبي وما يجري هذا المجرى‏.‏

فإن كل فاسق فهو أحمق وجاهل ولولا حمقه لما عصى الله تعالى بل كل من ليس بكيس فهو أحمق‏.‏

والكيس من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكياسة حيث قال‏:‏ ‏"‏ الكيس من دان نفسه وعمل ملا بعد الموت‏.‏

والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله ‏"‏‏.‏

ولهذه الرتبة أدبان أحدهما‏:‏ أن لا يقدم عليها إلا عند الضرورة والعجز عن اللطف‏.‏

والثاني‏:‏ أن لا ينطق خطابه بهذه الكلمات الزاجرة ليست تزجره فلا ينبغي أن يطلقه‏.‏

بل يقتصر على إظهار الغضب والاستحقار له والازدراء بمحله لأجل معصيته‏.‏

وإن علم أنه لو تكلم ضرب ولو اكفهر وأظهر الكراهة بوجهه لم يضرب لزمه ولم يكفه الإنكار بالقلب بل يلزمه أن يقطب وجهه ويظهر الإنكار له‏.‏

الدرجة الخامسة‏:‏ التغيير باليد وذلك ككسر الملاهي وإراقة الخمر وخلع الحرير من رأسه وعن بدنه ومنعه من الجلوس عليه ودفعه عن الجلوس على مال الغير وإخراجه من الدار المغصوبة بالجر برجله وإخراجه من المسجد إذا كان جالساً وهو جنب وما يجري مجراه ويتصور ذلك في بعض المعاصي دون بعض‏.‏

فأما معاصي اللسان والقلب فلا يقدر على مباشرة تغييرها وكذلك كل معصية تقتصر على نفس العاصي وجوارحه الباطنة‏.‏

وفي هذه الدرجة أدبان أحدهما‏:‏ أن لا يباشر بيده التغيير ما لم يعجز عن تكليف المحتسب عليه ذلك فإذا أمكنه أن يكلفه المشي في الخروج عن الأرض المغصوبة والمسجد فلا ينبغي أن يدفعه أو يجره وإذا قدر على أن يكفه إراقة الخمر وكسر الملاهي وحل درور ثوب الحرير فلا ينبغي أن يباشر ذلك بنفسه فإن في الوقت الوقوف على حد الكسر نوع عسر فإذا لم يتعاط بنفسه ذلك كفى الاجتهاد فيه وتولاه من لا حجر عليه في فعله‏.‏

الثاني‏:‏ أن يقتصر في طريق التغيير على القدر المحتاج إليه وهو أن لا يأخذ بلحيته في الإخراج ولا برجله إذا قدر على جره بيده فإن زيادة الأذى فيه مستغنى عنه وأن لا يمزق ثوب الحرير بل يحل دروزه فقط ولا يحرق الملاهي والصليب الذي أظهره النصارى بل يبطل صلاحيتها للفساد بالكسر‏.‏

وحد الكسر أن يصير إلى حالة تحتاج في استئناف إصلاحه إلى تعب يساوي تعب الاستئناف من الخشب ابتداء وفي إراقة الخمور يتوقى كسر الأواني إن وجد إليه سبيلاً فإن لم يقدر عليها إلا بأن يرمي ظروفها بحجر فله ذلك وسقطت قيمة الظرف وتقومه بسبب الخمر إذ صار حائلاً بينه وبين الوصول إلى إراقة الخمر ولو ستر الخمر ببدنه لكنا نقصد بدنه بالجرح والضرب لنتوصل إلى إراقة الخمر فإذن لا تزيد حرمة ملكه في الظروف على حرمة نفسه‏.‏

ولو كان الخمر في قوارير ضيقة الرءوس ولو اشتغل بإراقتها طال الزمان وأدركه الفساق ومنعوه فله كسرها فهذا عذر‏.‏

وإن كان لا يحذر ظفر الفساق به ومنعهم ولكن كان يضيع في زمانه وتتعطل عليه أشغاله فله أ يكسرها فليس عليه أن يضيع منفعة بدنه وغرضه من أشغاله لأجل ظرف الخمر وحيث كانت الإراقة متيسرة بلا كسر فكسره لزمه الضمان‏.‏

فإن قلت‏:‏ فهلا جاز الكسر لأجل الزجر وهلا جاز الجر بالرجل في الإخراج عن الأرض

المغصوبة ليكون ذلك أبلغ في الزجر فاعلم أن الزجر إنما يكون عن المستقبل والعقوبة تكون على الماضي والدفع على الحاضر الراهن‏.‏

وليس إلى آحاد الرعية إلا الدفع وهو إعدام المنكر فما زاد على قدر الإعدام فهو إما عقوبة على جريمة سابقة أو زجر عن لاحق‏.‏

وذلك إلى الولاة لا إلى الرعية‏.‏

نعم الوالي له أن يفعل ذلك إذا رأى المصلحة فيه وأقول‏:‏ له أن يأمر بكسر الظروف التي فيها الخمور زجراً‏.‏

وقد فعل ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم تأكيداً للزجر ولم يثبت نسخه ولكن كانت الحاجة إلى الزجر والفطام شديدة‏.‏

فإذا رأى الوالي باجتهاده مثل الحاجة جاز له مثل ذلك‏.‏

وإذا كان هذا منوطاً بنوع اجتهاد دقيق لم يكن ذلك لآحاد الرعية‏.‏

فإن قلت‏:‏ فليجز للسلطان زجل الناس عن المعاصي بإتلاف أموالهم وتخريب دورهم التي فيها يشربون ويعصون وإحراق أموالهم التي بها يتوصلون إلى المعاصي فاعلم أن ذلك لو ورد الشرع به لم يكن خارجاً عن سنن المصالح ولكنا لا نبتدع المصالح بل نتبع فيها‏.‏

وكسر ظروف الخمر قد ثبت عند شدة الحاجة‏.‏

وتركه بعد ذلك لعدم شدة الحاجة لا يكون نسخاً بل الحكم يزول بزوال العلة ويعود بعودها‏.‏

وإنما جوزنا ذلك للإمام بحكم الإتباع ومنعنا آحاد الرعية منه لخفاء

وجه الاجتهاد فيه‏.‏

بل نقول لو أريقت الخمور أولاً فلا يجوز كسر الأواني بعدها وإنما جاز كسرها تبعاً للخمر‏.‏

فإذا خلت عنها فهو إتلاف مال إلا أن تكون ضارية بالخمر لا تصلح إلا لها‏.‏

فكان الفعل المنقول عن العصر الأول كان مقروناً بمعنيين أحدهما‏:‏ شدة الحاجة إلى الزجر والآخر‏:‏ تبعية الظروف للخمر التي هي مشغولة بها‏.‏

وهما معنيان مؤثران لا سبيل إلى حذفهما‏.‏

ومعنى ثالث‏:‏ وهو صدوره عن رأي صاحب الأمر لعلمه بشدة الحاجة إلى الزجر وهو أيضاً مؤثر فلا سبيل إلى إلغائه‏.‏

فهذه تصرفات دقيقة فقهية يحتاج المحتسب لا محالة إلى معرفتها‏.‏

الدرجة السادسة‏:‏ التهديد والتخويف كقوله دع عنك هذا أولاً كسرن رأسك أو لأضربن رقبتك أو لآمرن بك وما أشبهه وهذا ينبغي أن يقدم على تحقيق الضرب إذا أمكن تقديمه‏.‏

والأدب في هذه الرتبة أن لا يهدده بوعيد لا يجوز له تحقيقه كقوله لأنهين دارك أو لأضربن ولدك أو لأسببن زوجتك وما يجري مجراه بل ذلك إن قاله عن عزم فهو حرام وإن قاله من غير عزم فهو كذب‏.‏

نعم إذا تعرض لوعيده بالضرب والاستخفاف فله العزم عليه إلى حد معلوم يقتضيه الحال وله أن يزيد في الوعيد على ما هو في عزمه الباطن إذا علم أن ذلك يقمعه ويردعه‏.‏

وليس ذلك من الكذب المحذور بل المبالغة في مثل ذلك معتادة وهو معنى مبالغة الرجل في إصلاحه بين شخصين وتأليفه بين الضرتين وذلك مما قد رخص فيه للحاجة وهذا في معناه فإن القصد به إصلاح ذلك الشخص‏.‏

وإلى هذا المعنى بما لا يفعل وهذا غير مرضي عندنا فإن الكلام القديم لا يتطرق إليه الخلف وعداً كان أو وعيداً وإنما يتصور هذا في حق العباد وهو كذلك إذا لخلف في الوعيد ليس بحرام‏.‏

الدرجة السابعة‏:‏ مباشرة الضرب باليد والرجل وغير ذلك مما ليس فيه شهر سلاح وذلك جائز للآحاد بشرط الحق إلى الآداء بالحبس فإن أصر المحبوس وعلم القاضي قدرته على أداء الحق وكونه معانداً فله أن يلزمه الأداء بالضرب على التجريج كما يحتاج إليه‏.‏

وكذلك المحتسب يراعي التدريج فإن احتاج إلى شهر سلاح و كان يقدر على دفع المنكر بشهر السلاح وبالجرح فله أن يتعاطى ذلك ما لم تثر فتنة‏.‏

كما لو قبض فاسق مثلاً على امرأة وكان يضرب بمزمار معه وبينه وبين المحتسب نهر حائل أو جدار مانع فيأخذ قوسه ويقول له‏:‏ خل عنها أو لأرمينك‏.‏

إن لم تخل عنها فله أن يرمى وينبغي أن لا يقصد المقتل بل الساق والفخذ وما أشبهه ويراعي فيه التدريج‏.‏

وكذلك يسل سيفه ويقول اترك هذا المنكر أو لأضربنك‏.‏

فكل ذلك دفع المنكر ودفعه واجب بكل ممكن‏.‏

ولا فرق في ذلك بين ما يتعلق بخاص حق الله وما يتعلق بالآدميين‏.‏

وقالت المعتزلة‏:‏ ما لا يتعلق بالآدميين فلا حسبة فيه إلا بالكلام أو بالضرب ولكن للإمام لا للآحاد‏.‏

الدرجة الثامنة‏:‏ أن لا يقدر عليه بنفسه ويحتاج فيه إلى أعوان يشهرون السلاح‏.‏

وربما يستمد الفاسق أيضاً بأعوانه ويؤدي ذلك إلى أن يتقابل الصفان ويتقاتلا‏.‏

فهذا قد ظهر الختلاف في احتياجه إلى إذن الإمام‏.‏

فقال قائلون‏:‏ لا يستقل آحاد الرعية بذلك لأنه يؤدي إلى تحريك الفتن

وهيجان الفساد وخراب البلاد‏.‏

وقال آخرون‏:‏ لا يحتاج إلى الإذن وهو الأقيس لأنه إذا جاز للآحاد الأمر بالمعروف وأوائل درجاته تجر إلى ثوان والثواني إلى ثوالث‏.‏

وقد ينتهي لا محالة إلى التضارب‏.‏

والتضارب يدعو إلى التعاون فلا ينبغي أن يبالي بلوازم الأمر بالمعروف‏.‏

ومنتهاه تجنيد الجنود في رضا الله ودفع معاصيه‏.‏

ونحن نجوز للآحاد من الغزاة أن يجتمعوا ويقاتلوا من أرادوا من فرق الكفار قمعاً لأهل الكفر‏.‏

فكذلك قمع أهل الفساد جائز لأن الكافر لا بأس بقتله والمسلم إن قتل فهو شهيد‏.‏

فكذلك الفاسق المناضل عن فسقه لا بأس بقتله‏.‏

والمحتسب المحق إن قتل مظلوماً فهو شهيد‏.‏

وعلى الجملة فانتهاء الأمر إلى هذا من النوادر في الحسبة‏.‏

فلا يغير به قانون القياس‏.‏

بل يقال‏:‏ كل من قدر على دفع منكر فله أن يدفع ذلك بيده وبسلاحه وبنفسه وبأعوانه‏.‏

فالمسألة إذن باب آداب المحتسب قد ذكرنا تفاصيل الآداب في آحاد الدرجات‏.‏

ونذكر الآن جملها ومصادرها فنقول جميع آداب المحتسب مصدرها ثلاث صفات في المحتسب‏:‏ العلم‏.‏

والورع‏.‏

وحسن الخلق‏.‏

أما العلم‏:‏ فليعلم مواقع الحسبة وحدودها ومجاريها وموانعها ليقتصر على حد الشرع فيه‏.‏

والورع‏:‏ ليردعه عن مخالفة معلومة فما كل من علم عمل بعلمه‏.‏

بل ربما يعلم أنه مسرف في الحسبة وزائد على الحد المأذون فيه شرعاً ولكن يحمله عليه غرض من الأغراض‏.‏

وليكن كلامه ووعظه مقبولاً فإن الفاسق يهزأ به إذا احتسب ويورث ذلك جراءة عليه‏.‏

وأما حسن الخلق‏:‏ فليتمكن به من اللطف والرفق وهو أصل الباب وأسبابه‏.‏

والعلم والورع لا يكفيان فيه‏.‏

فإن الغضب إذا هاج لم يكف مجرد العلم والورع في قمعه ما لم يكن في الطبع قبوله بحسن الخلق‏.‏

وعلى التحقيق فلا يتم الورع إلا مع حسن الخلق والقدرة على ضبط الشهوة والغضب‏.‏

وبه يصبر المحتسب على ما أصابه في دين الله‏.‏

وإلا فإذا أصيب عرضه أو ماله أو نفسه بشتم أو ضرب نسي الحسبة وغفل عن دين الله واشتغل بنفسه‏.‏

بل ربما يقدم عليه ابتداء لطلب الجاه والاسم‏.‏

فهذه الصفات الثلاث بها تصير الحسبة من القربات وبها تندفع المنكرات‏.‏

وإن فقدت لم يندفع المنكر‏.‏

بل ربما كانت الحسبة أيضاً منكرة لمجاوزة حد الشرع فيها ودل على هذه الآداب قول صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا رفيق فيما يأمر به رفيق فيما ينهى عنه حليم فيما يأمر به حليم فيما ينهى عنه فقيه فيما يأمر به فقيه فيما ينهى عنه ‏"‏ وهذا يدل على أنه لا يشترط أن يكون فقيهاً مطلقاً بل فيما يأمر به فقيه فيما ينهى عنه وهذا يدل على أنه يدل على أنه لا يشترط أن يكون فقيهاً مطلقاً بل فيما يأمر به وينهي عنه وكذا الحم‏.‏

قال الحسن البصري رحمه الله تعالى‏:‏ إذا كانت ممن يأمر بالمعروف فكن من آخذ الناس به وإلا هلكت وقد قيل‏:‏ لا تلم المرء على فعله وأنت منسوب إلى مثله من ذم شيئاً وأتى مثله فإنما يزرى على عقله ولسنا نعني بهذا أن الأمر بالمعروف يصير ممنوعاً بالفسق ولكن يسقط أثره عن القلوب بظهور فسقه للناس‏.‏

فقد روى عن أنس رضي الله عنه قال‏:‏ قلنا يا رسول الله لا نأمر بالمعروف حتى نعمل به كله ولا ننهى عن المنكر حتى نجتنبه كله‏.‏

فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ بل مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به كله وانهوا عن المنكر وإن لم تجتنبوه كله ‏"‏ وأوصى بعض السلف بنيه فقال‏:‏ إن أراد أحدكم أن يأمر بالمعروف فليوطن نفسه على الصبر وليثق بالثواب من الله فمن وثق بالثواب من الله لم يجد مس الأذى فإذن من آداب الحسبة توطين النفس على الصبر‏.‏

ولذلك قرن الله تعالى الصبر‏:‏ بالأمر بالمعروف‏.‏

فقال حاكياً عن لقمان‏:‏ ‏"‏ يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك ‏"‏‏.‏

ومن الآداب تقليل العلائق حتى لا يكثر خوفه وقطع الطمع عن الخلائق حتى تزول عنه المداهنة فقد روي عن بعض المشايخ أنه كان له سنور وكان يأخذ من قصاب في جواره كل يوم شيئاً من الغدد لسنوره فرأى على القصاب منكراً فدخل الدار أولاً وأخرج السنور ثم جاء واحتسب على القصاب فقال له القصاب‏:‏ لا أعطينك بعد هذا شيئاً لسنورك فقال‏:‏ ما احتسبت عليك إلا بعد إخراج السنور وقطع الطمع منك‏.‏

وهو كما قال فمن لم يقطع الطمع من الخلق لم يقدر على الحسبة ومن طمع في أن تكون قلوب الناس عليه طيبة وألسنتهم بالثناء عليه مطلقة لم تتيسر له الحسبة‏.‏

قال كعب الأحبار لأبي مسلم الخولاني‏:‏ كيف منزلتك بين قومك قال‏:‏ حسنة قال‏:‏ إن التوارة تقول إن الرجل إذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ساءت منزلته عند قومه‏.‏

فقال أبو مسلم‏:‏ صدقت التوراة وكذب أبو مسلم‏.‏

ويدل على وجوب الرفق ما استدل به المأمون إذ وعظه واعظ وعنف له في القول فقال‏:‏ يا رجل ارفق فقد بعثت الله من هو خير منك إلى من هو شر مني وأمره بالرفق فقال تعالى‏:‏ ‏"‏ فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى ‏"‏ فليكن اقتداء المحتسب في الرفق بالأنبياء صلوات الله عليهم‏.‏

فقد روى أبو إمامة‏:‏ أن غلاماً شاباً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا نبي الله تأذن لي في الزنا فصاح الناس به فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ قربوه أدن ‏"‏ فدنا حتى جلس بين يديه فقال النبي عليه الصلاة والسلام ‏"‏ أتحبه لأمك ‏"‏ فقال‏:‏ لا جعلني الله فداك قال‏:‏ ‏"‏ كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم أتحبه لابنتك ‏"‏ قال‏:‏ لا جعلني الله فداك قال ‏"‏ كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم أتحبه لأختك ‏"‏ وزاد ابن عوف حتى ذكر العمة والخالة وهو يقول في كل واحد‏:‏ لا جعلني الله فداك‏.‏

وهو صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ كذلك الناس لا يحبونه ‏"‏ وقالا جميعاً في حديثهما أعني ابن عوف والراوي الآخر فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره وقال‏:‏ ‏"‏ اللهم طهر قلبه واغفر ذنبه وحصن فرجه فلم يكن شيء أبغض إليه منه ‏"‏ يعني من الزنا‏.‏

وقيل للفضيل بن عياض رحمه الله‏:‏ إن سفيان بن عيينة قبل جوائز السلطان فقال الفضيل‏:‏ ما أخذ منهم إلا دون قه ثم خلا به وعذله ووبخه فقال سفيان‏:‏ يا أبا علي إن لم نكن من الصالحين

فإنا لنحب الصالحين‏.‏

وقال حماد ابن سلمة‏:‏ إن صلة بن أشيم مر عليه رجل قد أسبل إزاره فهم أصحابه أن يأخذوه بشدة فقال‏:‏ دعوني أنا أكفيكم فقال‏:‏ يا ابن أخي إن لي إليك حاجة قال‏:‏ وما حاجتك يا عم قال‏:‏ أحب أن ترفع من إزارك‏.‏

فقال‏:‏ نعم وكرامة فرفع إزاره فقال لأصحابه‏:‏ لو أخذتموه بشدة لقال‏:‏ لا ولا كرامة وشتمكم‏.‏

وقال محمد بن زكريا الغلابي‏:‏ شهدت عبد الله بن محمد بن عائشة ليلة وقد خرج من المسجد بعد المغرب يريد منزله وإذا في طريقه غلام من قريش سكران وقد قبض على امرأة فجذبها فاستغاثت فاجتمع الناس عليه يضربونه فنظر إليه ابن عائشة فعرفه فقال للناس‏:‏ تنحوا عن ابن أخي ثم قال‏:‏ إلي يا ابن أخي فاستحي

الغلام فجاء إليه فضمه إلى نفسه ثم قال له‏:‏ امض معي فمضى معه حتى صار إلى منزله فأدخله الدار وقال لبعض غلمانه‏:‏ بيته عندك فإذا أفاق من سكره فأعلمه بما كان منه ولا تدعه ينصرف حتى تأتيني به فلما أفاق ذكر له ما جرى فاستحيا منه وبكى وهم بالانصراف فقال الغلام‏:‏ قد أمر أن تأتيه فأدخله عليه فقال له‏.‏

أما استحييت لنفسك أما استحييت لشرفك أما ترى من ولدك فاتق الله وانزع عما أنت فيه فبكى الغلام منكساً رأسه ثم رفع رأسه وقال‏:‏ عاهدت الله تعالى عهداً يسألني عنه يوم القيامة أني لا أعود لشرب النبيذ ولا لشيء مما كنت فيه وأنا تائب فقال‏:‏ ادن مني فقبل رأسه وقال أحسنت يا بني فكان عن الغلام بعد ذلك يلزمه ويكتب عنه الحديث‏:‏ وكان ذلك ببركة رفقه ثم قال‏:‏ إن الناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويكون معروفهم منكراً فعليكم بالرفق في جميع أموركم تنالون به ما تطلبون‏.‏

وعن الفتح بن شخرف قال‏:‏ تعلق رجل بامرأة وتعرض لها وبيده سكين لا يدنو منه أحد إلا عقره وكان الرجل شديد البدن فبينا الناس كذلك والمرأة تصيح في يده إذ مر بشر بن الحارث فدنا منه وحكم كتفه بكتف الرجل فوقع الرجل على الأرض ومشى بشر فدنوا من الرجل وهو يترشح عرقاً كثيراً ومضت المرأة لحالها فسألوه ما حالك فقال‏:‏ ما أدري‏!‏ ولكن حاكني شيخ وقال لي‏:‏ إن الله عز وجل ناظر إليك وإلى ما تعمل فضعفت لقوله قدما وهبته هيبة شديدة ولا أدري من ذلك الرجل فقالوا له‏:‏ هو بشر بن الحارث فقال‏:‏ وا سوأتاه كيف ينظر إلي بعد اليوم وحم الرجل من يومه وماتت يوم السابع فكذلك كانت عادة أهل الدين في

الحسبة‏.‏

وقد نقلنا فيها آثاراً وأخباراً في باب البغض في الله والحب في الله من كتاب آداب الصحبة فلا نطول بالإعادة‏.‏

فهذا تمام النظر في درجات الحسبة وآدابها والله الموفق بكرمه والحمد لله على جميع نعمه‏.‏